إعادة إعمار سوريا والنهب القادم/ رانيا مصطفى
ترافقَ حديث إعادة إعمار سوريا مع بدء عمليات التدمير الواسعة التي قام بها النظام وأكملتها روسيا منذ تدخلها العسكري في سوريا خريف 2015. يعكس مصطلح “إعادة الإعمار” معاني إنسانية إغاثية وحضارية، لكنّ تجارب إعادة الإعمار بعد الحروب في دول الجوار (العراق ولبنان) تقول بغير ذلك.
أطرافُ المعارضة كانت قد عقدت باكرا منذ 2011، برعاية خليجية أوروبية، مؤتمرات إعادة هيكلة الاقتصاد السوري وتم إطلاق صندوق لدعم إعادة الإعمار، يديره بنك إعادة التعمير التابع للحكومة الألمانية، وبمشاركة دول “أصدقاء سوريا”.
اليوم كلّ التوقعات تشير إلى أن الأطراف الأوروبية والخليجية هي من سيقوم بتمويل ملف إعادة الإعمار، إضافة إلى البنك وصندوق النقد الدوليين، ودور كبير متوقع للشركات الصينية. لكن كل هؤلاء يرفضون البدء الآن، حيث لا تسويات واضحة التفاصيل تدلّل على نهاية الحرب في سوريا، وبالتالي تحقق الظروف الملائمة لدخول الشركات الأجنبية، رغم سعي النظام وداعميه، روسيا وإيران، إلى الإيهام بغير ذلك.
يتم الآن القضاء على داعش وتقاسم مناطقه، ورغم ذلك لا يزال الأوروبيون يشكّكون بقدرة النظام على تحقيق الاستقرار. وبالمثل دول الخليج يرفضون بقاء الأسد والنفوذ الإيراني في سوريا.
وعكس ذلك، يسعى النظام وحلفاؤه إلى فرض سياسة الأمر الواقع، عبر مصادرة الحل السياسي القائل بالمرحلة الانتقالية ودستور جديد وانتخابات تشريعية ورئاسية، واستبداله بآخر، يعدّ في أستانا، ويقول ببقاء النظام وانتهاج سياسة خفض التصعيد والهدن، لإيهام المجتمع الدولي بقدرة النظام وحده على إدارة البلاد، وتحت الاحتلال الروسي.
تدخلت روسيا في سوريا عسكريّا عبر اتفاقيات مجحفة مع النظام، هي بمثابة تشريع احتلال روسيا لسوريا؛ والآن تريد التحكّم في ملف إعادة الإعمار، وذلك بحصر قرارات وتفاصيل العملية بالنظام. وهي تحاول، كما إيران، حجز حصّتها من الملفّ الدسم؛ وبالفعل وقّعت مؤخرا مع النظام العديد من عقود الاستثمار المتعلقة بإنتاج وتوزيع الطاقة، كالغاز والكهرباء والمياه، وتسعى للبدء بتصدير مواد البناء إلى سوريا، إضافة إلى التحضير لإنشاء مصرف سوري- روسي، لتقديم المزيد من التسهيلات الائتمانية، وتقوية التبادل التجاري، والأهم من ذلك لجمع أموال السوريين، وشراء العقارات الهامّة في دمشق، لكن كلّ الآراء ترجح عدم قدرة روسيا وإيران على تغطية مشاريع إعادة الإعمار وحدهما، فضلا عن مشكلة التمويل؛ لذا قد تلعب روسيا دور الوسيط الرئيسي في ملف إعادة الإعمار.
هذا ما يفسر أن دولا في المنطقة، إضافة إلى رجال أعمال عرب هم من النخب الاقتصادية، ورجال أعمال سوريين معارضين، كل هؤلاء باتوا يحجّون إلى موسكو، لتقوية العلاقات وفتح أبواب المصالحة مع النظام، والمشاركة في التنافس على المشاريع. فيما أميركا مكتفية بحصة غير صغيرة من سوريا، هي مناطق سيطرة الأكراد وما تحتويه من آبار نفطية في الرقة والشمال، مقابل التهائها بالحصة الأكبر من المنطقة، وهي العراق.
لا يختلف المتنافسون على غنيمة إعادة الإعمار حول آلية وضع الأسس القانونية التي ستشرعن دخول الشركات الخاصة، وأولويات المناطق التي سيتم فيها، وآلية تقديم القروض اللازمة بل وآلية تحصيلها لاحقا، والتي ستكون من ثروات وقوت الشعب السوري؛ الخلافات غير المحسومة اليوم هي على حصص كلّ من الأطراف الساعية وراء مصالحها.
إذا تلك الأطراف تقول بالانفتاح الاقتصادي الكامل وحرية السوق والاستدانة من الصناديق الدولية والقبول بشروطها. وبالتالي الخصخصة الكاملة لكل مرافق وشركات الدولة.
ما قلناه يستند إلى نجاح النظام وروسيا في فرض ما يريدون من حل سياسي، هذا يعني أن الجميع سيسعون إلى حجز مكان لشركاتهم الاستثمارية في سوريا بغضّ النظر عن مواقفهم السابقة من النظام.
إعادة الإعمار، وفقا لتجارب دول الجوار، سوف لن تعني إعادة بناء المدن والقرى والأحياء المدمرة كلها، ولا بناء المصانع ودعم الزراعة، وخلق فرص عمل مستدامة، أي لن تعني النهوض بالاقتصاد الوطني، كما حصل في مشروع مارشال في أوروبا، بل ستتوجه تلك الأموال إلى المناطق التي تعتبر إستراتيجية من حيث الموقع الجغرافي والسياحي والموارد، ومن حيث القدرة على استثمارها وجني الأرباح منها. المشاريع التي تم البدء بها تدلّل بالفعل على ذلك؛ مثل منطقة عشوائيات بساتين الرازي، التي لم تتعرض إلى تدمير، وتم إخلاؤها من سكانها الفقراء، مع تعويضات رمزية، لإنشاء مجمّعات سكنية فاخرة ومرافق لن يقو على تكاليفها إلا الأغنياء.
ويحكى عن مخططات مماثلة في داريا وما حولها، فضلا عن إعادة تأهيل الأسواق القديمة في حلب والسوق المسقوف ومناطق بابا عمرو وجوبر في حمص ومدينة تدمر الأثرية، ودون أن ننسى المشاريع الاستثمارية التي تقام في طرطوس وعموم الساحل السوري. وبالتالي علينا ألا نتوهم أن الكتل المالية التي سترصد لسوريا، ستلبي احتياجات المتضررين من الحرب فعلا.
على كل حال، إذا ما تم البدء الفعلي بإعادة الإعمار، فإن ذلك سيُشغّل عددا لا بأس به من اليد العاملة؛ وهذا سيحتّم ارتباط ذلك بعودة اللاجئين في دول الجوار. وبالتالي من المستبعد أن تتمكن الحكومة السورية، ومن خلفها الرّوس، من البدء بتلك المشاريع قبل حل المشكلات المعقّدة المرتبطة بالحل السياسي.
أيا كانت تفاصيل توزيع حصص إعادة الإعمار، فإن كلفتها، والتي تُقدّر بـ200 مليار دولار، ستكون ديونا، وستُوجّه كلّ الثروات الباطنية من أجل تسديدها، فيما سيتحمل الفقراء العبء الأكبر من شروط التقشف والضرائب التنازلية التي سيفرضها المقرضون بالضرورة.
كاتبة سورية
العرب