إعلان سياحي عن ربيع عربي!
سلام عبود
حالما أقلعت الطائرة دهمتني فكرة خياليّة خالبة: “إننا مقدمون يوما ما على ثورات عاصفة، ثورات لا تشارك فيها الشعوب وحدها فحسب، بل ستثور معها عدّادات السيّارات المضطهدة، وأجهزة الحاسوب المستعبدة، وإشارت الضوء المذلّة المهانة، وربما حتى ضحايا التقسيم العرقي للطائرات، ومادة المغناطيس، ومعدّو “كوميديا” الحياة اليوميّة، البشعة، السوقية، المعادة، الصفراء، ومخرجوها وممثلوها”.
كنت حينذاك جالسا على ارتفاع آلاف الأقدام، في جزء الطائرة المشكوك في أصالة أوروبيته، في الجزء الخلفي، الجزء الانثروبولوجي، قرب المراحيض، في الطائرة الذاهبة من مصر الى أسوج، حيث يتكدس في مؤخرتها، بكثافة ملحوظة، البشر ذوو السحنات الشرقية.
الرحلة الليلية دامت بضع ساعات. حينما صحونا- لم أنم، كنت أنسج رواية في خيالي- كنّا قد دخلنا العالم الآخر: هناك ليل وهنا فجر، هناك حرّ وهنا قُرّ، هناك مرجل يغلي وهنا بركان خمد منذ قرون، هناك أشياء لا يمكن وضع جدول للاحتمالات فيها وهنا كل شيء مرسوم وفق خطة، حتّى مراحيض المعوقين، وممرات راكبي الدراجات، وفتحات صعود عربات الأطفال الى أرصفة الشوارع ونزولها منها، حتى الشجرة الهرمة، التي على وشك أن تودّع عالمها، وضعوا مسندا يرفع جذعها الثقيل، لكي يمنحوها وقتا أطول للعيش، وربّما لكي يمنحونا وقتا أطول لمشاركتها عواطفها، حتى أماكن وجودنا في جوف الطائرة أعيد توزيعها أمنيّا بإرادة كونيّة عليا. عالمان منفصلان انفصالا تاما، برغم أنف الحقيقة التي تقول إن الأرض أصحبت قرية عالمية. لكأن الأرض مديرية أمن عالمية!
في أسوج أتممت كتابة ما بدأته في تلك الرحلة. كانت الحصيلة رواية تسجيلية سميتها “إعلان سياحيّ عن أمّ الدنيا”، تنتهي بالكلمات التي بدأت بها خاطرتي هذه، وتتحدث عن ساحة التحرير، والحصان “رامبو” الذي هاجم ساحة التحرير، والرئيس الأبدي، ودعائيي السلطة، والمدوّنين، ونشطاء الانترنت السريين، وشركات الفساد، و”أحمد ومرقص!”… الى آخر المشاهد السياحية.
حينما خرج الناس الى ميدان التحرير تذكّرت روايتي المنسيّة. فكّرت في أن الناس في مصر يستطيعون الصعود الى السماء بيسر. بما أن التونسيين فعلوها، سيفعلها المصريون لا محالة. مصر في نظري ويقيني قاطرة الثورة العربية. ولكن، خيِّل إليّ، أن جهاز الحكم المصري المتمرّس، قد يفلح في إدارة اللعبة لصالحه، مستفيدا من أخطاء حكومة زين العابدين، ومن قلّة خبرة “الشباب”. بيد أن التحويرات المتذاكية، التي أجراها حسني مبارك، لغرض تعديل سيناريو زين العابدين، جعلتني أتأكد فورا أن الرئيس يهبط بشفافية وسلاسة الى القاع، وأن القاطرة المصرية لم تزل بكامل عزمها وزخمها. أبرز أخطاء الرئيس أنه صحّح سيناريو زين العابدين، وسعى الى سدّ ثغره جيّدا، ولكن في شوارع مصر. لقد انشغل الرئيس بالسيناربو نفسه غاية، بتفصيلاته ونقاط ضعفه وقوّته وسيلة، لكنه نسي أمرا مهما، نسي المتن وانشغل بالفهرس، نسي مصر وشوارعها وناسها وخصوصيتها؛ نسي نفسه، نسي أنه ليس زين العابدين. إنه حسني مبارك! نعم، هذا السيناريو كان من الممكن أن ينجح لو أعيد تطبيقه على الانتفاضة التونسية. أما مصر، فلا يمكن أن تدار بسيناريو تونسي، حتى وإن كان مصحّحا ومدقّقا على أيدي خبراء دوليين. مصر تُقرأ بقاموس مصري، مصري خالص، مصري الحجم، مصري التاريخ، مصري المعاناة، مصري الأبجدية، ومصري “القفشات” أيضا. لم يكن اليسار، ولا القوى الإسلامية، ولا العلمانية، هي المضطهد الأكبر في مصر، كما يُشاع إعلاميّا. كان المجتمع بأسره مضطهدا. السلطات هنا تضطهد وتهين حتى الحاسوب، حتى أجهزة ضبط السير في الشوارع، حتى البعران السياحية.
لم يكن الإضطهاد محصورا في فرد أو جماعة. كان المجتمع بأسره، بمن فيه الرئيس نفسه، يعاني من نقص في جرعة الكرامة، نقص كامل في الحقوق المدنية، وفي أسس المواطنة.
حينما نتحدث الآن عن الربيع الثوري المفاجئ، يحلو لنا أن نسجن أنفسنا في قمقم اللغة. ثلاث كلمات، نحسب أنها العمود الفقري المكوّن لجسد الحقيقة: الثورة، ربيعها، ودور مثقفيها. حينما نتأمل اللوحة الطبيعية جيّداً نجد أنها تفتقر افتقارا تاماً الى ثلاثة عناصر أساسية، هي تحديداً: الثورة، الربيع، والمثقف. لا توجد ثورة في هذه الثورة. هذه هي الحقيقة الأولى، التي يجب على الجميع إدراكها، وتذوّق طعمها المرّ. هناك اضطهاد تاريخي، مديني، تراكم عبر عقود مديدة، مصحوبا بخيبات أمل قومية ووطنية كبيرة، وبانسداد تام في الأفق السياسي والثقافي والاجتماعي. هذا التراكم صعد الى حدّه الأعلى في حقبة انقلابية على المستوى العالمي، تبدلت فيها مناسيب القوة العالمية ومقاييسها، وبدأ صراع دوليّ جديد، اتخذ من منطقتنا مركزا له، وشرع يعيد هيكلة الجغرافيا والتاريخ والايديولوجيا والحكم. الأزمة الداخلية، التي تبحث عن انفراج، تزامنت مع عمليات الهدم والبناء العالمي. لا يجوز فصل أحد الطرفين عن الآخر. الاختناق الشعبي لم يصل الدول المقتدرة ماليّا، القادرة على تنفيس حجم الضغط الداخلي والخارجي. البحرين هي الحلقة الأضعف طائفيا واقتصاديا، في بلدان التنفيس الاقتصادي العربية، لذلك ضربها الزلزال أيضا، ومثلها في أوروبا ايطاليا واليونان واسبانيا. السعودية أيضا، برغم اقتدارها المالي ودورها القيادي سياسيا، لن تكون خارج موجة الزلزال. ورمان تاريخيان، طائفي ومديني، ينهشان قلب المؤسسة الاجتماعية السعوديّة، يبحثان عن حلّ جراحي، إرغامي، ينبع من المطلب العربي نفسه: دولة المواطنة. السودان نفّس عن تراكماته الخانقة بالحرب الأهلية والتقسيم. العراق ينفّس عن تناقضاته القاتلة بطريقة أسطورية، باختراع فنون التفكيك الطائفية والعرقية مصحوبةً بنهب الثروات وتدمير الوطن الأمّ. لقد حدث ما حدث في ظلّ هذا التراكم السلبي والانسداد التاريخي. لذلك أصبح محتّما على الشارع، بصرف النظر عن هويته، أن يتحرك. أن يتحرك ليس في اتجاه الثورة، ولكن أولا، وقبل كل شيء، في اتجاه البحث عن فرجة يتنفس بها، يأخذ جرعة هواء ضرورية تعينه على مواصلة الحياة، سواء بثوب جديد أو قديم أو مختلط، أو حتّى بلا ثوب. بيد أن هذا التزاحم الشعبي الغاضب، غليان الروح هذا، كان فورة روح جماعية، وتعبيرا عن رفض مطلق للمكوث أطول مدة في حاويات إجتماعية، متعفنة، خالية من التهوية. هذا ما خرج الشارع من أجله. هذا الانسداد وما رافقه من خروج الى الشارع، لم يكن يجري خارج دائرة التشكيل والاستحواذ التاريخي العامة. فإذا كانت بعض السلطات المحلية قد هُزمت، فإن اللاعب الأكبر، المهيمن على المشهد هو الذي بدأ يلتقط ثمار هذا الغضب التاريخي، ويعيد ترتيب المشهد الداخلي قوميا، من طريق إعادة توزيع القيادة السياسية العربية على نحو جديد إقليميا ودوليا، وداخليا من طريق صناعة تطمينات سياسية وعسكرية ومالية، تدير القرار الداخلي، بما لا يتعارض مع مشروع الهدم والبناء الدولي. من يمنح الثورات شهادات حسن السيرة والسلوك؟ عن هذا السؤال تجيب ساحات عديدة بوضوح مطلق، أولاها ساحة التغيير المخذولة في تعز، وساحة التغيير المغدورة في صنعاء، ودوّار ساحة اللؤلؤة، الذي أزيل من الوجود. ربّما تجيب سرفات الدبابات أيضا وهي تحرث ساحات حمص حرثا، لكنها لن تنبت زرعا يقوم، ولا عقدا يدوم. إذاً، من يمنح الثورات غاياتها؟ حينما تمنح النروج، دولة الحياد الأولى، جائزة نوبل للسلام هذه السنة، وهي تمحو تاريخ الثقافة النسوية العربية من ألفه الى يائه، فإنها تحدد سلفا هوية الثورة اليمنية والعربية، ولا تخفي احتقارها للكوكبة المضيئة من مناضلات الرأي والفكر والسلام والثقافة العربيات، في طليعتهن نوال السعداوي. الجائزة الجواب تقول لنا إن أسئلة الامتحان الثوري قد تمّ تسريبها الى بعض الممتحنين سرّا، وهم الآن يتسلّمون نتائج الامتحان. أجوبة المسؤولين النروجيين المرتبكة والمخجلة تقول لنا بصوت غبيّ: نحن من يحدد، نيابة عنكم، غايات ثوراتكم، ونحن من يوزع نتائج الامتحانات الثقافية، نتائج الحرب ونتائج السلام!
لقد بدا لي المشهد، من السماء، هكذا: بعد مرحلة الصدمة والترويع، التي عمّت العالم عند الغزو الأميركي للعراق واحتلاله، تبحث شعوب كثيرة عن أفق يخرجها من معاناتها التاريخية. الرعاة الدوليون يبحثون عن حظائر حُكم جديدة يجرّون الثورات اليها. السياسة الآن سياسة الاصطياد في ماء الشعوب المختنقة. اللاعبون المقتدرون يسعون الى قيادة أسماك البحار الهائجة الى شبكة التحالف الداخلي والخارجي المحكمة. هذه هي الصورة. أين الثورة إذاً؟ أين الربيع؟ وأين المثقف؟
في روايتي يستعرض البطل الصور القبيحة التي عاشها في أم الدنيا: كاتب مقالات الاستسلام، الصبية المحجّبة التي تمارس التزوير، فتاة الليل الكسيرة، الصبي الراقص، لصوص السياحة، لصوص الطوائف… حينذاك تخطر في باله فكرة جارحة: هل هو جزء من هذا العالم الوضيع؟ أم هو شيء مختلف؟ وإذا كان مختلفا، بماذا يتميّز عنهم؟ أبكونه “مثقفاً”! وإذا كانت مصر يوما ما أمّ الدنيّا، أمّ من هي الآن؟
لأزمان طويلة احتكرت سلطاتنا حقّين جوهريين: احتكرت الكرامة لنفسها، واحتكرت موهبة الاجتراء باسم الدولة، باعتبارها المالك المطلق لشريعة الاسترقاق المجتمعي. في فورة الروح الشعبية، تمّ تحطيم واحدية الاحتكار هذا. لقد ظهر منافس يتدرب على ممارسة انتزاع المواطنة وعلى امتلاك موهبة الاجتراء.
هذا هو الذي دفع الناس الى ساحات التغيير. ولكن، الطريق الى الساحات، لا يعني الطريق الى الانقلاب الجذري، والى “ربيع الثورة”. لأن الطريق الى الساحات قد يعني، في ظروف كثيرة، الدوران حول الساحة، الدوران حتى الإعياء وانقطاع النفس. البعض يريد لمجتمعاتنا الالتفاف حول نفسها، مثل أفعى ذات رأسين، رأس من الأمام ورأس من الخلف.
لم يبق لنا الآن سوى البحث عن المثقف في هذا الانقلاب العربي، الذي سمّيناه ثورة وربيعا. أين المثقف العربي؟ لا أحد يستطيع انكار دور الأدب والفن والكتابة التحريضية بمختلف أشكالها، التي تتناول ظاهرة الكبت التاريخي وجور السلطات، والتي سعت بمقدرات متفاوتة الى إضاءة المشهد المظلم ببعض مساقط الضوء الشحيحة. من المؤكد أنها لم تكن تتنبأ حرفيّا بما حدث، ولم تكن سلطة تحريضية حقيقية أيضا. ذلك كلّه لا يمنحنا مشروعية البحث عن دور خاص للمثقف العربي في هذه الفورات. بالضبط، كما لا يحق لنا أن نبحث عن دور مميز وخاص لباعة “اللبّ” والفول السوداني في هذه الثورة، برغم أهمية المكسّرات التنفيسية والترويحية المبهجة في حياتنا اليومية. المثقف العربي، بـ”شفافية” تامة، كان أقدر من المواطن ومن الحكومات على التنفيس عن احتقاناته. كان أكثر مقدرة ومهارة على ترويض نفسه وتزييفها وخداعها. لم يكن المثقف معنيا بالبحث عن مخرج للأزمة العامة، بقدر ما كان مشغولا بالبحث عن فجوات وتكسّرات في جدران الواقع المحطم، ينفذ منها الى بقعة راحة أو جرعة أمان، أو فسحة لتبديد هوسه وولعه بشيء غير ضروري ومصطنع، اسمه الثقافة. أما الشارع فقد كان يتنفس جماعيا هواء فاسدا، من دون أن يجد ثقبا، ولو صغيرا للتنفس الحرّ. حينما نتحدّث عن المثقف والثورة، لا بدّ لنا أن نعرف أن هذا المقياس، الذي نقيس به الثورات يعرفه الرؤساء أكثر من المثقفين، بل هم يعرفون دقائقه وتفصيلاته الجوهرية، رغما عن غبائهم التام سياسيا. لذلك اختار حسني مبارك مثقفا، محسوبا على الحراك الطليعي وزيرا لثقافته الساقطة، واختار علي عبدالله صالح صحافيا، خرج من جيب الحزب الاشتراكي، للتبشير بوأد “الثورة” اليمنية، من طريق قيادة أعلى جهاز دعائي في اليمن. لا أظن أن القرضاوي يقع خارج دائرة الثقافة هذه. تباهينا بثقافتنا العصرية لن يخرجه من دائرة الثقافة، إلا تحاملا وحمقا. حينما نتحدث عن ارتفاع صوت المثقف يجب علينا أن نقيسه بعلوّ ومكانة واستمكان ذلك الصوت القادم من عصور ما قبل التاريخ، الذي يصرّ على قيادة “الثورة” وعلى صنع ربيعها الأبدي. هذه أيضا ثورة، وهي ربيع مؤكد، وثقافة أيضا!
بما أننا نتحدث عن الثورة والثقافة، سأواصل الحديث عن روايتي المصرية. حينما فرغت من كتابتها، قمت بتنقيحها، ثمّ بعثتها الى موقعين مصريين ثقافيين يساريين. كان الجوابُ صمتَ القبور الدوار!
حدث هذا قبل أربع سنوات من قيام الثورة أو الفورة أو انقلاب توزيع الأدوار العربي الإقليمي.
حينما نتحدث عن الثورة علينا أن نكون ثوريين في أعماقنا، وأعني بهذا المثقف تحديدا. ثورة المثقف تبدأ في داخل وعيه، وفي داخل ضميره، قبل أن تذهب الى ساحة التغيير، أو ساحة التنفيس، أو ساحة التضليل، وقبل أن تتغنى بفصولها الأربعة.
النهار