صفحات الثقافة

إقرأ…/ أحمد بيضون

 

بات معتادأً في جلسات البيوت أو المقاهي فتح المناظرة بين أنصار الكتاب أو الجريدة الورقية وأنصار القراءة على الشاشة. يشبه هذا ما يستدعيه الزجّالون في ندواتهم من أشياءٍ ينشئون بينها علاقةَ ضدّيةٍ ويروح أحدهم يشيد بواحد من الضدّين وينتقد الآخر فيما يشيد خصمه بالآخر ويحمل على الأوّل. من ذلك اقتراح مناظرةٍ بين القلب والعين علق بذاكرتي من زمنٍ قديم:

ما بين قَلْبْ وعَيْنْ نَقّي من التْنَيْنْ / اللي بتعجبكْ والتانيي سِيبا إلي!

يشدّد أنصار الورق على ما تجلبه العلاقة به من متعة حسّية: على ملمسه وحتّى على رائحته ويذكرون مقام الكتاب بما هو ‘جليس′، على قول المتنبّي، أو بما هو مقتنىً تتّصل به قيم عظيمة عمرها قرون. الصحيفة الورقية أيضاً رفيقة طقوس تُسْهم في تعيين موقع لمن يعتادها في الجماعة. وأما المسلّمون بسيادةٍ لا رجعة عنها للحواسيب، على أنواعها، فيدافعون عن طاعتهم للمدّ الجارف بذكر مزايا ذات طبيعة عملية للمادّة الرقمية لم تكن متاحة لسلَفها الورقي. من ذلك إمكان التنقّل بمكتبة فيها ألوف الكتب ومعها أشرطة وصور وتسجيلات شتى ومداخل إلى عدد لا يحصى من الصحف بلغات شتى وإلى محطات الإذاعة والتلفزة أيضاً وإلى شبكات ومواقع وصفحاتٍ لا تحصر، وهذا كله على حاسوب لوحيّ لا تتجاوز زنته بضع مئات من الغرامات.

وينوّه أنصار المقروء الافتراضيّ، على الخصوص، بوظيفة البحث التي تتيح للقارئ أن يحصر، في الموقع الواحد أو في المواقع كلّها، ما ينفعه، مهملاً النظر في ما لا ينفعه ومقتصداُ ما كان يصرفه من وقت في التقليب المحموم لصفحات الكتاب أو لأعداد المجلّة مثلاً وهو لا يحتاج منها كلّها إلا إلى فقرة أو جملة. وهذا إذا لم يفته كلّ ما يحتاج إليه أو جلّه وهو يسرع في التصفّح وإن لم تلجئه الضرورة إلى معاودة الكرّة. وأما وظيفة البحث الحاسوبية فتجد له ما يحتاج إليه من المطبوعة، كثيراً كان أم قليلاً وتنجز له بأجزاء من الثانية ما كان سيستغرق منه ساعاتٍ أو أيّاماً. وإلى البحث تضاف القدرة على نقل ما يلزم وجمعه في موضعٍ واحد وتنسيقه بحسب المرغوب…، إلخ. هذا كلّه لم تكن تتيح ما يدانيه الكتب المتقنة التأليف، المزوّدة فهارسَ مختلفة ومكتباتِ بحثٍ جامعة.

من هذا يبدو أنصار الشاشة وكأنهم يتوفّرون على مزايا عمليّة يستطيعون الاستفاضة في عرضها، فيما لا يجد أنصار الورق سوى مشاعر يمكن حشرها كلّها في خانة الحنين تسويغاً لوفائهم لما يصطفّ على الرفوف أو يتراكم فوق المكاتب. ويزيد موقع الورقيين ضعفاً أن تقدّمهم الغالب في السنّ يُظهرهم وكأنّهم صائرون إلى الانقراض. فإن أكثر هؤلاء، بطبيعة الحال، هم ممن جاوزوا سنّ الثلاثين بكثير أو قليل فعرفوا عالماً كان الورق فيه سيّد الساحة واتخذوه عالماً لهم إذ لم يجدوا في متناولهم سواه. هذا فيما يجنح الشباب ناهيك بالأطفال إلى ملازمة الشاشة ولوحة المفاتيح ويسلسون لهما قيادهم إلى حدّ يجعل ملمس الورق يوغل في غربة متزايدة عن عوالمهم. فيظهر أن الافتراضي بات قاب قوسين من وراثة أرض الواقع ومن عليها.

هل يصحّ فعلاً اختتام البحث بالملاحظة القائلة إن لما تعرضه الشاشات مزايا عملية يقصّر دونها الورق؟ أم أن ثمّة بين الطريقتين فوارق تتناول فعل القراءة نفسه فتجعل معناه ومؤدّاه مختلفين بين حالة وحالة اختلافاً يصل إلى طبيعة القراءة نفسها. هل نفعل الشيء نفسه حين نقرأ كتاباً على الشاشة وحين نقرأه في حلّته الورقية؟

الراجح أن الجواب عن هذا السؤال يصحّ بالإيجاب حين يتعلّق الأمر بكتاب واحد محدّد. ولكن يظهر أن الأمر يمسي مختلفاً جدّاً حين ننظر في المعنى العامّ للقراءة على النحو الذي يشكّلها فيه المعروض الافتراضي بعمومه ونقارنه بذاك الذي تشكّله المكتبة الورقية. فإن ثمّة تعمّداً في اختيار المطبوعة، كتاباً كانت أم صحيفة، ينطوي على رغبة في المغامرة تأتي مكتفية بضوابط تقريبية جدّاً منها، على سبيل المثال، المعرفة السابقة بالمؤلّف أو المتابعة المعتادة للصحيفة. في ما يتعدّى هذه المزكّيات للاختيار يترك القارئ نفسه لما تحمله إليه المطبوعة مستنفراً ملَكةَ انتباهٍ عوّدها الإصغاء، مكتفياً من الأسئلة بأعمّها: ما الأخبار اليوم؟ ما رأي فلان في ما جرى هناك؟ ما جديد هذا المؤلّف بالمقارنة مع ما هو مأثور عنه؟ إلخ. الذهن المفتوح للمنتظَر ولغيره والصبر… الصبر، خصوصاً، والتفكّر هي ما يميّز المقاربة المنتظرة من قارئ المطبوعة الورقية.

الشاشة، والشبكة وراءها، شيء مختلفٌ جدّاً والمستغرق في عوالمهما بشريّ مختلف جدّاً. عادةً يدخل المستطلع مجاهل الشبكة العنكبوتية ومفتاحه إليها سؤال قد يكون اسماً علماً أو كلمة أخرى. فقد أصبحنا حين يشكل علينا أمرٌ من الأمور لا نقوم إلى مجلّد على رفّ قريب ولا إلى آخر أبعد منالاً في مكتبة الجامعة بل نبثّ شكوانا إلى آية الله غوغل الذي يوافينا بلا انتظار بما يفيض كثيراً عن الحاجة وما هو جدير بالتقدير والشكر وما هو حريّ بإثارة الشك أو الإنكار في نفوس العارفين. معنى هذا أن معاملتنا الأساسية للشبكة توحي باعتبارنا إياها قاموساً عرمرماً أو موسوعة بلا ضفاف. هذه الشساعة نفسها تملي تضييقاً متصاعداً لنطاق المطلوب يفرض مزيداً من التحديد لما نختار قراءته ضنّاً بالوقت. ولكن الوصول بهذا التحديد إلى مدىً مناسب قد يقتضي هو نفسه وقتاً غير قليل نمضيه في ما يشبه التجربة والخطأ. في كلّ حالٍ، تغلب ههنا صيغة العلاقة المألوفة بالقاموس أو الموسوعة على تلك المألوفة بأنواعٍ أخرى من الكتب: بالعمل الفلسفي، مثلاُ، أو بالرواية.

غير أن التضييق المشار إليه يستحيل غرقاً وتخبطاً في خضمّ هائج حين نترك استطلاع الشبكة ما عندها من أجوبة عن سؤال محدّد إلى نوعٍ آخر من التصفّح هو ذاك الذي يمليه علينا اقتناؤنا بريداً الكترونياً أو صفحة في الفيسبوك أو في غيره من شبكات ‘التواصل’. إذ ذاك نجد انفسنا عرضة لمسالك في المغامرة أكثر تشعّباً بكثير من تلك التي يعرّضنا لها كتاب مختار أو صحيفة مألوفة. فما من منطق يضبط ما يمكن أن يحمله إلينا البريد، وبعضه مرفقات فيها كلام مستفيض أو فيها أصوات وصور تترى بغثها الكثير وسمينها القليل ونراها تقتنص وقتنا، أحياناً، بلا طلب منا ولا قرار اتخذناه. ومثل هذا وأكثر منه يقال عمّا يحمله الفيسبوك، مثلاً. فها هنا لا تني تتفاقم ورطة المتصفّح وهو يعاني تدفّقاً بلا آخر لموادّ لايسأل رأيه في وصولها إليه، يستوقفه بعضها وكثيراً ما يندم لأنه ترك لها أن تستوقفه. ولعلّ أحسن خلاصة للشعور بهذه الورطة قول ذلك الفسبوكي المفجوع بوقته: ‘العمر بيخلص والـنيوز فيد ما بيخلص’.

على أن أجدر ما في هذا كلّه بالانتباه هو أن غزارة العرض تجعل المتصفح لا يمضي في قراءة مادّة (أو في سماعها أومشاهدتها) إلى آخرها. بل هو لا يزال يتقلّب وهو يقلّب فيكاد لا يستقرّ لانتباهه ولا لذاكرته قرار ولا يخرج ممّا يسمّى’الإبحار’ إلا بصيدٍ لا يسمن. فالقراءة هنا ترسي عادة التجوّل البصري بين أطراف النص بحثاً عن ‘زبدة’ مفترضة للمادّة واسترشاداً بألفاظ- مفاتيح. و يكون المطلوب عادة أن يخلص المتصفّح، على جناح السرعة القصوى، من المادّة إلى ما يليها.

ذاك ما يحمل، في الواقع، على إعادة النظر في أفضلية المقروء الافتراضي الذي نؤخذ بما يكال له من مديح يبدو واضح الأسانيد. فالحال أن النظر المتأني ينتهي، في ما يتعدّى التسليم بالتفوّق ‘النفعي’ لذاك المقروء، إلى الطعن بهذا الوضوح. من ذلك أن باحثين أمريكيين وجدوا أن ألفتنا الشاشة والشبكة أخذت تغيّر دماغنا نفسه، فنصل من ذلك إلى وقت تصبح فيه قراءة رواية، مثلاً، أمراً يفوق طاقتنا العقلية.

 

بيروت في 11 نيسان 2014

‘كاتب لبناني

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى