صفحات الثقافة

إله السارين والبراميل/ أمجد ناصر

 

I

من الوحل هذه الوردة،

من الفحم هذا البريق،

من الطين هذا الطفل،

الوغد،

الرجل الصالح،

البهلوان.

هذه الوجوه أقنعةٌ لمخلوقات أخرى، لا تشبهنا، شقَّها كي ترى الأسلاك والوشائع تنقل رسائلَ البلطة، والبراميل التي تسّاقطُ على الرؤوس، كالمطر الذي أرسله الله إلى أممٍ أخرى. لا ينبغي أن أجدِّف، أنا الذي ينتظرُ في طوابير الواقفين أمام الأرشيف السماوي، مع موتى لا أسماء لهم. لهم أسماءٌ لكنَّها لا تقدِّم ولا تؤخِّر في هذه الدياميس.

من يستطيعُ أن يعدَّ الأنفاس الأخيرة لهؤلاء الذين تنشَّقوا هواءً مفخَّخاً، لا لون له ولا رائحة، الذين سقطت وجوههم على الطريق إلى هنا. هناك بقايا وجوهٍ لم يمحُها السارين لكنَّها، هنا، لا تقدِّم ولا تؤخِّر؟ من رأى كيف هلك هؤلاء الذين لم يكونوا على موعدٍ مع الموت، لكنهم وجدوا أنفسهم في طريقه المرصَّع بالجماجم، فساقهم، كقدرٍ عابثٍ، أمامه. كم يدٍ للموت، كم ذراعٍ. كم قدمٍ حتى يستطيع التنقُّل، كالبرق، بين وجوهٍ لا أسماء لها، وأسماء لا وجوه لها. على أي توقيت يشتغل، هل يملك ساعة منبِّه؟

لا تقولوا إنه الموعد، لا تقولوا إنه مكتوب، لا تقولوا إنَّ في ذلك حكمةً لا تدركها أبصارنا الحسيرة، فبعدما وصلتُ إلى هنا، لم أعد أصدِّقُ ذلك. هناك فوضى في صفوف المنتظرين أمام الأرشيف السماوي، ولا يعرفون لِمَ هم موجودون هنا. ليس هذا وقت أولئك الأطفال الذي يتعلَّقون، برعبٍ، في أذيال أمهاتم. فقد كان الوقت أمامهم، غير أنَّ أحداً قرَّرَ أن يأزف الوقتُ ولم يكن الله، ولا عزرائيل، لا تحمّلوه فوق حمله الثقيل..

كلا.

كان هناك وقتٌ.

كان هناك.

كان.

بيد أنَّ ثمة من يلعبُ بالتواريخ والأرقام، في روزنامة الربِّ الكبيرة، ليس إبليس، يكفيه منفاه الأبدي بين الطغاة والزناة والخاطئين. هناك من يستغلُ قيلولةَ العرش، ليلعب بالتواريخ والمصائر. على أحدٍ أن يسكبَ ماءً بارداً على جبينه الهائل، كي يرى ما يحدثُ فلن يعجبه، على الأغلب، ما سيرى مهما كان مزاجه متعكراً. على أحدٍ أن يرفع هذه الغرَّة الضخمة عن عينيه، ليرى ما يجري في مملكة آدم.

II

كثيرٌ هذا اللحم. لحمٌ كثيرٌ متطاير. طازج. مقدَّد. من يريد كلَّ هذا اللحم. الوحوش الكاسرة شبعت، وهي لا تلهو باللحم، ولا تتقاذف بالأعضاء. اللحم الجديد يطرد اللحم القديم. الأرض، وهي لحمٌ سابقٌ، لم تعد قادرةً على الاستيعاب والتمثّل. لن يصبح هذا اللحم تراباً لوقت طويل، فلا مكان له في التراب المزدحم بلحمٍ آخر. لا أضرحة. لا شواهد. لا أسماء. موتى يدفعون موتى، ظانين أن هناك ملجأ من هذه القيامة العارضة.

من يستطعْ أن يحوِّلَ الوحشَ الى آدميٍّ فليقدِّم إليَّ دليله، وإلا فليصمت لأنَّ الصمتَ، أقلّه، احتمالٌ للحيرة، والحيرةُ احتمالٌ ضئيلٌ على وجودٍ بشريٍّ في قارة العظام هذه. لقد رأيتموهم يطيرون ملائكةً بلا أجنحة، لأنَّ السكاكين تفضِّلُ الأعضاء المنفردة. سهلٌ عليها أن تقطع اليد أو القدم، أو تجزّ الحنجرة، أو تبقر البطن، من أن تصل إلى مصدر الأنين الذي يدلُّ على أنَّ هذه المخلوقات، التي تقطَّعت أوصالها كانت، في الأصل، تمشي على قائمتين. كانت لها يدان تصافحان وتحتجّان، وربما كانتا قادرتين على العناق. كلكم رأيتموهم. كنتم تتحلقون حول مائدة الطعام، فأزعجكم انعدام لياقة الذين يرسلون إليكم هذه الأعضاء المنزوعة من سياقها.

لا تغفر لهم يا أبتي

لأنهم كانوا يعلمون ما يفعلون.

III

لأمي طريقتها في النواح الذي يجعلُ الموتَ كشربة ماء. تعالي، يا أمي، من وراء التراب، من تحت أعشابك المُداوية التي تبعتك إلى القبر، ونوحي على هؤلاء المُمَدّدين بلا أوصال، بقصبات هوائية تصفرُ فيها رياحُ الظلمات ينتظرون عربة الموت التي تقلُّ موتى آخرين. تعالي، وغني لهم الأغنية التي كنت تغنينها لأبي، كي يعود من مشيه الطويل في الليل. سمعت بجانبي من يقول: أنظروا، هذه حنجرتي، كنت أستخدمها للغناء ومناداة أخي الصغير بطريقة مضحكة. كان يضحك، ويطلب المزيد. ماذا أفعل بها، الآن، بعدما تمَّ استئصالها وتفريغها من الضحكات والأغاني. لقد رموها بين الأشجار، فالتقطها طائرٌ لا أعرف اسمه، وجاء بها إلي. لا أعرف إن كانت حنجرتي فعلاً، فلا شيء يميّزها سوى ذلك المجرى الذي سالت فيه الأغنية التي جعلتُ فيها إلهاً معبوداً، معلناً من طرفٍ واحدٍ، مسخرةَ على كلِّ لسان. صديقي الذي بلا قوائم يشيرُ إليَّ برأسه، كي أساعده على قضاء حاجته على النصب التذكاري، لإله البراميل والسارين.

العربي الجديد

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى