إلى أين تؤدي أسلمة الثورة السورية؟
سوسن جميل حسن
شهدت فرنسا حروباً طاحنة بسبب الصراعات الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، أما اليوم ففي الفصل الدراسي الواحد طلبة مسلمون ويهود وكاثوليك وبروتستانت، وآخرون ينتمون إلى ديانات أخرى، وقد لا ينتمون إلى أي دين، يتعايشون من دون أية مشاكل تذكر. كما هناك عدد كبير من المهاجرين الذين تحاول الدولة الفرنسية إيجاد القوانين الناظمة لحياتهم وتحقيق إدماجهم في المجتمع.
لست بصدد تسليط الضوء على التجربة الفرنسية في ترسيخ دعائم الدولة الحديثة التي تقوم على مبدأ المواطنة، لكن ما أريد التنويه به هو أن الدولة التي تقوم على فكرة العلمانية، لا تفرق بين المواطنين ولا تصنفهم بحسب انتماءاتهم الدينية. وهذه المبادئ التي أفرزتها الثورة الفرنسية العام 1789 تجذرت بقوة في النظام الجمهوري، عندما صارت قانوناً أساسياً يضمنه الدستور ويفصل بين الدولة والكنيسة، هو القانون الرقم 8 للعام 1905. هذا الفصل لم يؤذِ الدين، أي دين، ولذلك اليوم في فرنسا ما يربو على 2000 مسجد، وفي النية زيادة هذا الرقم، كما صرح في حديث لمجلة دبي الثقافية وزير التخطيط المدني موريس لوروا منذ عام، إذ تمكنت السلطات العامة والجمعيات المحلية من أن تجد الحلول القانونية من أجل إزالة العوائق وإيجاد التمويلات لبناء المساجد.
هذا لا يتنافى بالنسبة لمبادئ الجمهورية الفرنسية مع توجه هذه الجمهورية المبنية على أسس عقلانية باعتبار فصل الدين عن الدولة شعاراً مورس كمبدأ يستند إليه قيام الدولة على أساس المواطنة، وهذا لا يتناقض مع الأديان أو ينقص من احترام طقوسها، لأن الدين انطلاقاً من هذا المبدأ هو أمر خاص بالأفراد وليس بالدولة، بينما شهدت الدول العربية ومنها سوريا قفزة كبيرة في إنشاء المساجد والمدارس الشرعية بمباركة من الأنظمة، ولم يقتصر دورها على الجانب الديني من طقوس وعبادات، بل تعداه إلى تكريس الدور السياسي للدين، وتخطى هذا المجال في بعض الحالات إلى الترويج لأنماط متطرفة من الفكر الديني.
لم يكن شعار «الدين لله والوطن للجميع»، الذي راج مع إرهاصات الاستقلال في المنطقة العربية إلا ترجمة لحلم يشغل بال الشعوب العربية الحالمة بالنهضة وبناء الدولة الحديثة على أساس المواطنة. كانت الأحلام كبيرة والطموحات عظيمة، لكن العقود التي تلت، اغتالت الأحلام وصادرت أنظمة الحكم فيها، أنظمة مستبدة استولت على السلطة، وجعلت منها أدوات تخدم مصالحها، حيث عملت تلك السلطات على ترسيخ ثقافة وفكر، تحيّد العقل وتحاصر الخيال وتعرقل أي محاولة للابتكار والتجديد، وتتغنى بالماضي والتراث وأمجاد السلف، وكان لها طبقة من رجال الدين الذين اشتبكت مصالحهم مع مصالحها، فهللت لتلك الأنظمة وروجت لمقولة معصية الحاكم من معصية الخالق. كل ذلك تحت شعارات الدولة العلمانية والأحزاب العلمانية التي احتكرت السلطة، ما أدى إلى نفور الشعوب من هذا المصطلح بسبب التشويه الذي مارسته التجربة السياسية في تلك الدول.
بالنسبة للربيع العربي في سوريا، كان واعداً بأحلام ملونة حول الديموقراطية والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وبناء مؤسسات الدولة بمحاربة الفساد والمفسدين، وأحلام أخرى تنضوي تحت جناحه، لكن الحراك الشعبي تعقد بدخول جهات عديدة خارجية على خط الحراك. لم يعد قرار الشعب السوري في رسم مصيره قراراً حراً أو داخلياً، بل صارت سوريا ساحة لمعركة النيات والمصالح، كما دخل إليها فكر جديد لم يكن يلاقي أرضاً خصبة له لدى المجتمع السوري، هو الفكر الجهادي والفكر التكفيري، عدا الأسلوب الأمني الذي تعامل بواسطته النظام مع الحراك منذ بداياته، والدعاية التي اتخذت منابر عديدة لها، منها ما هو معلــوم ومنــها ما هو مجهول، ابتداء من بث الشائعات التي تروج للتباين الطائفي وخلق الحساسيات وتصنيف الحراك بحسب تصنيفات طائفية بين موالاة ومعارضة، وهذا من العوامل التي أدت إلى إحــجام بعض الفئات من المجتمع السوري عن الالتحاق في صفوف الثورة. فبعد ان كانت الشعارات في البداية من قبيل: «واحد واحد واحد»، «الشعب السوري واحد»، أو «الله سورية حرية وبس»، صرنا نقرأ ونسمع ترداد بعض الشعارات مثل: «الله سورية إسلام وبس»، عدا ظهور الرايات السوداء ورموز أخرى لـ«القاعدة»، وهذا ما ساهم في انكفاء بعض الصامتين، وعدم مشاركتهم بالحراك، بل ان قسماً منهم شعر بالهلع ولاذ بالنظام على أنه الضامن لحقه في الحياة والوطن.
سوريا تاريخياً تصنع حياتها بتعددها الديني والإثني، ولم يشهد تاريخها حروباً أهلية بالمعنى الحقيقي للكلمة، وقعت بعض النزاعات الطائفية أو المذهبية على نطاق محدود، كان يأخذ شكل الفتن التي تنتهي من دون أن تؤثر على الحياة العامة أو على تركيبة الدولة والمجتمع، وذلك بتدخل عقلاء المجتمع من رجال دين وممثلين للشعب في الحياة السياسية، ورجال لهم وزنهم في الحياة العامة. لكن الحروب الأهلية التي باتت واحدة من المفردات المتداولة بكثافة في وسائل الاعلام، هي حالة غريبة عن المجتمع الأهلي السوري.
إن كانت الثورة تسعى إلى الانقلاب على واقع أمسى قالباً جامداً ضاق الشعب به وآنت لحظة تكسـيره والخروج إلى حالة تحقيق الذات، لا بد من ان تعمل جدياً وبفعالية على تكريس أخلاقيات الثورة، وتأكيد شرعية الأهداف التي قامت من أجلها أسلمة الثورة التي بتنا نلمسها بكثافة على أرض الواقع، ابتداء من تغير شعاراتها إلى أسماء بعض ألوية «الجيش الحر»، إلى الخطاب الطائفي العلني الذي يصدر عن بعض رموز المعارضة في الخارج، وبعض الناطقين باسم هيئات التنسيق في الداخل، والذي تركز عليه وعلى استنباطه صريحا بعض الفضائيات، مع أساليب التضليل المتنوعة والتي يقابلها تضليل معاكس في المحطــات المحــلية، كل ذلك أدى إلى التخوف من الآتي، وقد زاد في هذا التخوف الممارسات الميدانية والعنف بأبشع أشكاله من قبل بعض الجهات من المعارضة والتي تقوم بالتصفيات الميدانيـة والتشفي من الجثث بتقطيعها، حارمين الشعب من حقه مستقبلا بمقاضاة كل من استباح أمنه وكرامته وإرادته وحياته سابقا بموجب القانون الذي يفترض أن يكون الدعامة الأساسية للدولة المدنية.
فإذا كان التاريخ يدوّن في أرشيفه كل ما يحصل خلال الثورات وانتفاضات الشعوب المقــهورة، ومن ضمنها التجاوزات والأفعال وردود الأفعال وبعض الانحرافات، والانقلابات على الثورة والتآمر عليها، ودخــول أطراف خارجية وانقلابات أمنية وفوضى، فإن الأكثر صحة وسلامة هو قراءة التاريخ والاستفادة من دروسه وأخــطائه، وما حـصل في الثورة الفرنسية التي مهدت لترسيخ مفــهوم الدولة المدنية القائمة على أساس المواطنة أكبر درس للثورات الحديثة. فهل فات الأوان للتصحيح، أم أن هناك بعـضا من أمل؟
كاتبة من سوريا