إلى صديق مهاجر
حسام عيتاني
أهنئك، صديقي، على قرارك. صارت بلادنا مصدرَ يأس مستمر ومتصل بعدما غادرَتْها لمحاتُ أمل لم تعمّر أكثر من شهور قليلة منذ انتهاء حروبنا الأهلية، بلاداً لانتظار ما لن يأتي. صار إحساسنا بالذنب تجاه أبنائنا أثقلَ من أن نجرؤ على النظر في عيونهم. فشلنا في توفير حاضر كريم لهم، ومستقبلهم لن يكون في هذه الجمهورية.
اخترتَ طريقاً سيقودك إلى الاستقرار النهائي في بلاد بعيدة. آمالك وأحلامك ستزهر في المهجر، كذلك ابنك وطفلك الذي لم يولد بعد. سيجد الصغار طفولة يحتفلان بها بعيداً من امراض بلادنا، التي تصيب أولادنا في المهد. قد تنجح في كتابة ما ترغب. وربما نقرأ لك في صحف محلية، فالمسافات لم تعد حاجزاً أمام الكتابة، لكنها لحسن الحظ، ما زالت تبقي البعيدين منا في مأمن، من جماعاتهم أولاً، ومن ضرورات الذل اليومي في وطن اللاجدوى واللامعنى.
لعل «الحياة في مكان آخر»، وفق رواية كونديرا، لكنْ ما الذي يبقى عندنا غير الحياة؟ إنه الاستعداد الدائم للموت المجاني، السريع منه والبطيء، أصوات شحذ السكاكين الطائفية في الليل تحت البيوت، مراهقون مولعون بالقتل وبالاستشهاد من أجل أي قضية، او حتى لا قضية، فقر لا يوحّد الفقراء، فساد لا يجمع المتضررين، مستقبل صادَرَه تنين الكراهية، شعارات خاوية تدعو إلى العدم كطريق وحيد إلى الجنة.
والحال أننا لا نطلب الكثير من بلدنا: قليل من الحياة العادية، نزهة مع من نحب وفنجان قهوة مسائية وأحاديث لا تحضر فيها هموم، من نوع المستقبل الغامض والقضايا المصيرية وتهديدات الإخوة، بعض من الكرامة، لمسة من الاحترام، الحق في العمل حتى لو كان مضنياً، مقابل عيش لائق.
لكن الحقيقة متعددة الوجوه، ولقائل إن يقول إن اللبنانيين، جماعات وأفراداً، لم يرتقوا في وعيهم وثقافتهم وممارساتهم السياسية إلى المستوى الذي تتشكل عنده هوية وطنية كفيلة بدرء التدخلات الخارجية في شؤونهم، وإنهم فضلوا المكاسب الآنية التي تقدمها الطوائف إلى أتباعها على الشروع في بناء دولة المواطن والقانون والمؤسسات. قد يكون ذلك صحيحا، لكن ماذا أنتج المجتمع المدني اللبناني -على افتراض وجوده- منذ أكثر من عشرين عاماً حتى اليوم؟ ما زال المجتمع المدني اللبناني، باستثناء بعض النجاحات في الدفاع عن هامش التعبير عن الرأي والحريات الفردية، أسيرَ الانقسامات الطائفية الطاغية.
وقبل ذلك، ما هي فرص نشاطٍ مفضٍ إلى بناء دولة حديثة في لبنان لم تَقضِ عليه الجماعات الطائفية المسلحة بعد؟ سؤال يطرحه شباب، مثلك صديقي، قرروا أن الأفق المغلق أمام أي تغيير حقيقي لا يتوسل العنف (الساقط حكماً في مرجل الاقتتال الطائفي)، لن يُفتح بمعاناتهم الفردية، فيما ترضى أكثرية من اللبنانيين أن تساق إلى صناديق الاقتراع وإلى مسالخ الحروب المقدسة في الداخل والخارج، من دون اعتراض أو تفكير.
التمسك بالجماعة وطوطمها ليس سمة جديدة في لبنان. المشكلة ليست في «الوعي» وحده ولا في انحدار الأخلاق أو ما شاكل ذلك من علل مشاركين في سهرة عائلية، بل هي أساساً في إعصار من المصالح والأهداف الكبرى التي لم نُستشر فيها، فيما ترى الجماعات المستمِدة صوابها من المقدس، أن السخرية كلَّ السخرية، في أن نُسأل رأيَنا في حياتنا وموتنا.
الحياة