إلى يوسف عبدلكي.. سوريا لنا
ديمة ونوس
كنت في دمشق بصحبة أصدقاء وكانوا يتحدثون عن مقال ما أو ستاتوس في صفحة “فايسبوك” كتبه نبيل صالح، لا أذكر بالضبط. لكنني أعرف جيداً أن الموضوع لم يدهشني. بالضبط كما لم يدهشني اعتقال يوسف. المعادلة بسيطة. ليس ثمة تناقض فيها. قوات أمن النظام السوري تعتقل الفنان يوسف عبدلكي. الصحافي نبيل صالح يطالب بمحاكمته حراً طليقاً بتهمة ترتيب زيارة السفير الأميركي روبرت فورد إلى حماة بداية الثورة عام 2011…
نبيل صالح، الصحافي المستقل، يعرف التهمة الموجهة إلى عبدلكي حتى قبل أن توجّه إليه. لا بل يبدو الموضوع أكثر إبداعاً. إذ يفتح صالح أمام مخيلة أجهزة الأمن، تهمة ربما لم تكن في بالهم أصلاً. إلا أنه يبدو أكثر رحمة منهم، فيطالب بالإفراج عنه ومحاكمته حرّاً طليقاً. وفي الوقت ذاته، يفتح مخيلتنا نحن القرّاء، المواطنين، الرعاع، القطيع، على حقيقة أن يوسف عبدلكي زاد من “تهويشه” ضد السلطة ساعياً بذلك لاعتقاله بحثاً عن الشهرة بعدما غلفّه النسيان. ويطلق صالح على عبدلكي وعلى “المهوشين” ضد السلطة اسم “مثقفي المعارضة”.. ليكون هو إذاً “مثقف السلطة”. سلطة الأمن والمخابرات والأقبية والتشبيح والتحريض ومفردات أخرى.
أذكر أنني قبل سنتين، كنت جالسة بصحبة يوسف عبدلكي وأصدقاء آخرين. وكان يتحدث عن منع السفر وكيف أنه لا يستطيع الذهاب حتى إلى بيروت. فسألته بشكل بديهي: “لماذا لا تسافر مستخدماً جواز السفر الفرنسي؟”. أجابني بشكل بديهي أيضاً: “ما عندي جواز فرنسي”. ومنذ ذلك الحين، أتذكر القصة كلما سمعت شكوى أحد الأصدقاء عن انعدام فرص السفر أو اللجوء أو الهرب. وأقول في سرّي إن يوسف بالغ في حماسته وفي الدفاع عن أفكاره إذ رفض الحصول على الجنسية الفرنسية مع أنه عاش في المنفى الباريسي ربع قرن معتبراً أن المكان ليس سوى “قاعة انتظار”. عاش في فرنسا ولم يتحدث الفرنسية. وهل تصلح قاعة الانتظار لتعلّم اللغات؟
وأعرف أن يوسف لم يكن مستاء من منع السفر. كان ممتلئاً بما لديه في دمشق. المشغل والبيت والأصدقاء والحياة التي حرم منها سنوات عاش خلالها منتظراً. الانتظار منهك. يعيق التأقلم. يصبح الإنسان ثقيلاً. والروح تختنق إذ تضيق الأمكنة عليها والخيارات تصبح محدودة والأحلام تكبر أكثر مما يحتمل الواقع.
تهمته الوحيدة أنه ما زال في سوريا، يتقاسم العيش مع نبيل صالح وغيره، يدافع عن حقه في البلد وفي امتلاك “وطن”. يوسف عبدلكي اليساري الذي أحترم خياره في رفض الجنسية الفرنسية وإن كنت لا أفهمه تماماً، ينادي نبيل صالح بمحاكمته بتهمة العمالة والتنسيق بين سفير أميركي وثوار حماة. تروي لي صديقتي أن السفير الفرنسي، إريك شوفالييه، طلب لقاء عبدلكي بداية الثورة وتحكي كيف كان اللقاء صعباً وجافاً والحوار متعثراً. لا يسهل على يوسف عبدلكي مجالسة سفراء أجانب لمناقشة ثورة تجري في بلاده، وأمضى ربع قرن ينتظرها في “قاعة الانتظار”، مسجوناً، متخلياً عن وطن بديل وعن جنسية أخرى تتيح له العودة والخروج والسفر براحته. في حين لا يتوانى النبلاء الصالحون في “سورية الأسد” عن الهرولة للقاء المسؤولين الروس أو الإيرانيين أو الصينيين وكأن هذه البلدان محافظات تابعة للوطن.
أذكر أن خبر اعتقال يوسف لم يدهشني. وكنت في طريقي إلى دمشق تقريباً. يوسف عبدلكي سوري، متساو في الحقوق مع باقي السوريين، يدفع ثمن خياراته مثله مثل باقي السوريين في الداخل، يناضل لتحويل “الوطن” من وطن يستأثر به نبيل صالح وزملاؤه في فروع الأمن وفي الأفكار والمواقف، إلى وطن لكل السوريين. يوسف عبدلكي لا يقلّ شجاعة عمن كرّس حياته للحلم بغد أجمل. لا يقلّ حماسة عن جيل “الطلائع” و”الشبيبة” الذين أطلقوا أصواتهم: “سوريا لنا وما هي لبيت الأسد”. ونبيل صالح يحالفه الحظ اليوم كما حالفه دائماً، إذ ما زال ثمة سوريون يدافعون عن حقوقهم، وعن حقه في آن، في العيش بكرامة وفي امتلاك الذات واستقلاليتها.