صفحات المستقبل

إنقاذ الحديد المفقود/ روجيه عوطة

 من الركام، ينتشل السوريون الحديد. بعد القصف، يتقدمون من المكان المدمر، ويفتشون بين الأحجار وقطع الإسمنت عن الأمتعة الباقية على قيد الحياة، أو بالأحرى الإستخدام. هكذا، يقترب أحد الشباب في الفيلم القصير، “حديد بحديد”(أبو نضارة)، من بقعة ركامية، ويخلص ماكينة الخياطة من تحت الأنقاض. نسمع صوتين، يتجادلان إن كانت لا تزال الآلة صالحة أم لا، بينما يسلمها المنتشِل إلى شاب آخر.

بذلك، يصبح “المفقود ملقوطاً”. فعلى الرغم من كل الخراب، الذي يحيطه من كل الجهات، ما زال في مقدور أثاث المنزل، أو أدوات عيشه، أو بعض الثياب، أن تكون علامة على احتمال الحطام، والإصرار على تحويله إلى فضاء حيّ. فحين ينقذ السوريون الحديد من الركام، لا يستقر الأخير على معنى ثابت، وسلبي، بل يصير من الممكن تخطيه، حتى يتوارى في الخلف.

يخفف تخليص الحديد من خراب المشهد، لكنه، لا يستطيع نفي القساوة التي يتضمنها. فمُنتشوا الحديد، الذين يظهرون في أحد الحقول الركامية، بدوا كأنهم ليسوا أطفالاً البتة، ومرد ذلك، أنهم احتكوا بالكارثة مباشرة ً، وأن الشاحنة الواقفة أمامهم، تنقل لهم مخلفات الحرب إلى ساحةٍ، لا يلعبون داخلها، بل يعملون على إنقاذ ما تيسر من الحياة فيها. إذ تقع عين المشاهد على كمّ هائل من الأحجار الباطونية، التي كانت، في الماضي، بيوتاً وشققاً سورية ً، غير أنها، الآن، عبارة عن ردمٍ، يجري سحب الحديد منه، أي الإكتفاء بعصبه الأصيل.

لكن، هل فعلاً كان المكان السوري قائماً قبل أن تقصفه طائرات النظام السوري؟ لقد كان الدمار كامناً في هذا المكان. فالنظام برع في تظهير المخرَب على أنه مبني، وتصوير المحطم على أنه مشيَّد. إذ قلب الواقع رأساً على عقب، ولم يكتفِ بهذا الفعل فقط، بل زرع الألغام في دواخله، بغاية إحكام القبضة عليه جوانياً، وليس الوقوف عند حدود مراقبته من الخارج. بالتالي، يظن المرء، في الكثير من الأحيان، أن النظام لا يقصف الأمكنة السورية من خارجها، بل من داخلها، أي أن فوهة المدفعة، أو الطائرة الحربية، تحضر في بطن المكان، وتضربه من هناك، محاولة ً رده إلى حقيقته الركامية.

كما لو أن القذائف والصواريخ والبراميل، التي تنزل على المكان السوري، تعلن للناس أن الأمكنة، التي ارتادوها في حياتهم، كالمنازل والساحات والحدائق، ليست إلا وهماً مركّباً من حطام جواني. وهم حين اكتشفو ذلك، بفعل ثورتهم، قرر النظام، وسلطاته، أن يسرع إلى رفع هذا الوهم بطريقتين: ردّ المبني إلى ركامه، ورد المؤسسة إلى حقيقة أنها مجرد معتقل.

وعليه، بات المكان السوري مؤلفاً من حيزين، أي الخراب، والسجن. وبهذه الهندسة البعثية، يحاصر النظام السوريين أكثر، ويمنعهم عن العيش في أمكنة مأهولة بحريتهم، وكرامتهم. فهم، بالنسبة له، أمام خيارين: إما العيش بين أربعة حيطان إسمنتية، أو الموت تحتها، في حال الإنتفاض. إلا أن النظام الأسدي لم يعرف أن هبوط تلك الحيطان يعني التفلت من قبضته، وبالتالي، بلوغ الحرية، وذلك، حتى لو هبطت على الساكنين بينها.

فالأطفال، الذي ينقذون حديدهم من إسمنت البعث، يبتكرون أدوات حضورهم في زمن ما بعد الحطام، بحيث أن قضبان الحديد، المسحوبة من الباطون المهزوز، هي بمثابة السبل إلى مكانٍ جديدٍ، لن يكون مبنياً ربما، لكنه، من المؤكد أن الدمار لن يكمن في دواخله، ومن ثم يهدده على الدوام. إذاَ، ينقذ الأطفال المفقود من مكانهم، ينتشلون حديده، أي عنصره الأقوى، الذي سيستخدموه في تشييداتهم المقبلة. وحين، يقاطعهم صوت انفجار قريب منهم، يعرف المشاهد أنهم لم يخافوا الإنفجار بنظراتهم، بل أنهم انتبهوا إلى أن جولة جديدة، تنتظرهم بفعله. تالياً، سينتقلون إليها، بعد أن ينجزوا مهمتهم الحالية. السوريون بإنقاذهم الحديد، ينقذون حقيقتهم!

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى