صفحات المستقبل

الدم السوري في حلبة روما/ بدور عبد الكريم

حلبة مقاتل وقتيل , ومتسع يكفي لحشد ممن شاء التصفيق للقاتل , وإغفال شأن القتيل … حدث هذا في زمن مضى , في روما القديمة , قبل أن يتحول الدم الطازج للمجالدين في حلبة الموت إلى حبر يجف بين دفتي كتاب قديم أو معاصر . وحيث لا حق لهؤلاء في اختيار حياتهم أو موتهم على السواء , فسوف يغيب من مفردات الكتب , بلا وحشة أو فضول , ما كانه ذاك الدم الطازج من حياة , عنونتها أسماء وأجساد , فوارة كانت بالحزن والوجع واللوعة والاشتياق و الأمل , فأصبحت نافلة إلى حد الإلغاء .

و إذ يسقط القاتل حيا والقتيل ميتا فلن يشغل الحشد الذي اجتمع للفرجة ما كان من شأنهما , أو ما يمكن أن يكون قدر ما سيشغله إغراء تفاصيل القتل المتبادل , قبل الوصول إلى النهاية المنتظرة .

حدث هذا في روما القديمة , منذ زمن بعيد مضى , على اعتراض أخلاقي معاصر أو إدانة , وهو يحدث الآن في سوريا , دون اعتراض أخلاقي معاصر أو إدانة , تتجاوز العرض في السوق الاستهلاكية للإعلام أو السياسة , لا يغير من غايتها أن اندلق الدم السوري على بنود ولوائح حقوق الإنسان في الحياة والحرية والكرامة , ولا يدفعها إلى ستر مباهاة باتت صفيقة , بإنجاز معاصر لتلك الحقوق و عرضها بزهو على رفوف مكتبات مرموقة , وجدران أروقة رسمية وغير رسمية في مختلف الهيات الدولية .

ويحدث الآن في سوريا أن حلبة القتل الرومانية القديمة , اتسعت حتى صارت بلدا كان اسمه سوريا , قبل أن تفككه أصابع مصلحة النظام إلى تجمعات عرقية وطائفية من عرب و أكراد و مسلمين ومسيحيين و علويين و سنة وشيعة ودروز, وما شاءت تلك المصلحة من تقسيمات حسب الحاجة لما كان منذ عقود مجتمعا , فإذا أبناؤه اليوم يتناثرون جمعا وفرادى على ما تبقى من أرض كانت حتى قبل عامين ونصف مدنا وبلدات لكل أبناها , فانقلبت إلى معتقلات يلوب ساكنوها للبحث عن مخرج من موت محتم قصفا أو جوعا , إلى احتمال موت أو حظ بنجاة , تتقطع بهم السبل من مكان إلى مكان عالقين في طوابير أمام حواجز أمنية , سعيد الحظ من يتخطاها سالما , وقد قضى من الوقت ما شاء له أولو الأمر و النهي على الحاجز , مستعينا بصبر أيوب ورضا الوالدين حتى لا تتلبسه تهمة الإرهاب , داعيا في سره أن يجتاز الحاجز و قد فاز بخسارة الوقت لا بخسارة العمر , و أقصى آماله أن يحظى بعد ذلك بمكان ما زال له سقف وجدران لم تنخلع كقلبه , وشيء من قوت إن استطاع إليه سبيلا , لا يعني السادة الكبار دوليا و اقليميا من شأنه و أمثاله , أن نسجت العناكب على مؤخرات أبنائهم خيوطها فماتوا , أو فاض دمهم حتى شرقوا به فماتوا , مادامت الإرادة الدولية قد حمتهم من ميتة السلاح الكيماوي سيء السمعة .

ويحدث الآن في سوريا أن لا مجالدين يجلبون من أسواق نخاسة بعيدة , فقد تحول البلد كله على يد النظام إلى سوق نخاسة , وناسه إلى مجالدين محشورين في لوائح انتظار الموت قاتلا أو قتيلا قبل أن يكدس إعلام ذلك النظام لحمهم الطازج في عبواته مسبقة الصنع , معنونة بلاصق مكافحة الإرهاب , مدموغة بجمجمة وعظمتين , وممهورة بخاتم صنع في سوريا , جاهزة للتصدير عبر الحقاب الدبلوماسية و السياسية و ساعات الإرسال الفضائية , إلى كل من يهمه الأمر في الداخل والخارج , أو حتى من لا يهمه على سبيل الإحتياط .

ويحدث في سوريا أن الدول الخمس والدول الثمان , والدول العشرين , وما نقص أو زاد ممن بيدهم العقد والحل , قد تركوا للنظام الحاكم ورقة موقعة على بياض ليقتل كما يشاء , مادام يحقق مصالح كل منهم . حدث هذا قبل الكيماوي وبعده . فقد ضمن لأمريكا دمار سوريا و أمن إسرائيل , وضمن لروسيا تمدد قدميها إلى المياه الدافئةبعد أن جمدهما جورباتشوف في صقيع سيبيريا , و لإيران من قبل ومن بعد ما أنجزته و ما لم تنجزه , أما تركيا فلها وعليها ما هو قابل للمساومة سوريا وللضغط  أميركيا , بينما الدول العربية الأطراف في الأزمة السورية في المنزلة بين المنزلتين , رجل هنا ورجل هناك , إحداهما مربوطة إلى مخاوفها من إيران وملحقاتها , والأخرى موصولة بحبل القرار الأمريكي , وما تصادف أن كان دولا للربيع العربي , فلكل اليوم شأن يلهيه , لا يشغل بال النظام منه إلا مقدار استخدامه له . ومقابل هذه الأوزان الثقيلة في كفة الميزان الأولى يتأرجح في الكفة الثانية اختلاف للإئتلاف يراوحه رجحانا وخفة سلاح المعارضة على الأرض الذي يراوح هو الآخر تقدما أو تراجعا  حسب ما تفرضه المستجدات الميدانية في وجه قوات النظام على تعددها , والفكرية بين الفصائل على اختلافها . ويبقى السوريون محض دم ينسكب , ودروب تفضي إلى دروب , بانتظار قرار ليس لهم , يحقق مصالح الجميع إلا هم .

يحدث الآن في سوريا أن مباراة الدم بين القاتل و القتيل ما عادت احتفالية موسمية للحماسة الوحشية في روما القديمة , لأنها على ما يبدو قد أدرجت بندا رابحا في اتفاقية التجارة العالمية .

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى