صفحات سوريةعمر قدور

«إنقاذ سورية»… حقاً؟!


عمر قدور *

سيكون من الخطأ قراءة نتائج مؤتمر «إنقاذ سورية» بناء على توصياته فقط، ما لم يؤخذ المؤتمر ككل في سياق خطاب هيئة التنسيق المنظِّمة له، أو بالأحرى في سياق التناقض المستمر ضمن خطاب الهيئة، والذي قد يرقى إلى مستوى التناقض الممنهج والهادف.

ليس جديداً على السوريين الاختلاف الكبير بين الممارسة والشعارات، فهذه سمة أصيلة لنظام البعث لم تتخلص منها قوى معارضة أيضاً، ما يُضطر المتابع إلى «تقشير» بعض الخطابات للوصول إلى «بيت القصيد». و»بيت القصيد» هنا، في مؤتمر إنقاذ سورية، هي وثائق مؤتمر القاهرة التي وافقت عليها هيئة التنسيق في مطلع تموز الماضي، ومنذ ذلك التاريخ دأبت تصريحات قادتها على التراجع عن بنود أساسية منها، ولتصبح المفارقة أكبر تبنى مؤتمر الإنقاذ تفاهمات القاهرة في الوقت الذي كانت فيه مداولاته ومقرراته الأخرى تفرغها من مضمونها الرئيسي.

في خطوة متقدمة حينها، وافقت هيئة التنسيق على بندين أساسيين تم التفاهم عليهما بين أطياف المعارضة التي اجتمعت في القاهرة، الأول منهما ينص صراحة على تنحي الرئيس، والثاني ينص على دعم الجيش الحر؛ أي على تبني خيار الكفاح المسلح الذي كان قد أصبح واقعاً. إثر انفضاض مؤتمر القاهرة بدأت هيئة التنسيق سلسلة من التراجعات، وبحيث لا تتبناها رسمياً باجتماع أعضائها، وقد بلغ الأمر باثنين من قيادييها البارزين أن يوقعا على «نداء روما» المخالف تماماً لتفاهمات القاهرة، من دون أن تتخذ الهيئة موقفاً أو إجراء صارماً بحقهما. أما رئيس هيئة التنسيق في المهجر فقد واظب على النيل من قوى أساسية في الثورة، وبخاصة من القوى العسكرية، بدعوى عمالتها للخارج مركزاً على ما يسميه «دعماً وهابياً وخليجياً».

إن تسمية «هيئة التنسيق في المهجر» بحد ذاتها مدعاة للتوقف عندها؛ اللغة ليست حيادية كما نعلم، وعندما تُستخدم كلمة «المهجر» للدلالة على معارضي الشتات، الذين هم بحكم المنفيين طوعاً أو كرهاً، فهذه لفتة قد تبرئ النظام من معاناة مئات الألوف من السوريين الممنوعين من العودة. سيبدو أثر اللغة أوضح في حادثة اعتقال اثنين من كوادر الهيئة وصديق لهما قبيل انعقاد المؤتمر، فالهيئة أعلنت بدايةً عن «اختطاف» الثلاثة بلغة حيادية تماماً، قبل أن يصرّح رئيسها بأن جهة أمنية قد اختطفتهم، وعلى ما يبدو لقد أغرت كلمة «الاختطاف» النظام فأعلن عن قيام «عصابات مسلحة» باختطافهم، ما يجعل حياتهم في خطر أكيد.

مَن اتهم المتظاهرين بالحصول على السلاح من جهات أجنبية قبل أن يفكر أحد في خيار التسلح، ومَن اتهم المتظاهر «من على قناة العالم الإيرانية» بالحصول على مبلغ ألفي ليرة سورية لقاء كل تظاهرة، هو قيادي بارز في هيئة التنسيق، بينما سيستغل رأس النظام رقم الألفي ليرة في أحد خطاباته ليصوّر السوريين كمرتزقة رخيصين. ما يجدر التوقف عنده هنا: إن كان المسلحون ينفذون أجندات الجهات التي تمولهم بالسلاح، وإن كان المتظاهرون السلميون مرتزقة، فما الذي يبقى حقاً من الشعب الذي تتبنى الهيئة ثورته رسمياً؟!

لا يخفي قياديون في الهيئة استعلاءهم على الشارع، وصرّحوا في مناسبات عدة بأن الشارع قد لا يكون على صواب، وليس من مهمات المعارضة مسايرته. مع ذلك يصر قادة الهيئة على اعتبارها ممثلة للشارع السوري الثائر، ولعل من أولويات مؤتمر الإنقاذ تكريـسـها كمـمثل لـما يُعرف بمعارضة الداخل، على رغم تعـسف التقسيم بين الداخل والخارج، ومحاولة النـظام فـرضـه لتـثـبـيت روايته عن معارضي الداخل الوطنيين في المقـابل من أقرانهم غير الـوطـنيين في الخارج. لقد سبق للهيئة أن طرحت مـشـروعاً للـهدنة بين طرفي الصراع، ولا يستقيم مع طرحها لنفـسها كطرف ثالث أن تعدّ نفسـها مـمثلة للـقوى الـثوريــة المـسلحة، ولا أن تعدّ نفـسها ممثـلة للقوى الـسلمية «الراديكالية» التي تدعم الجيـش الـحر، وهذه جميعاً قوى داخلية لا ترضى بالحوار مع رأس النـظام. لكـن غياب ممثلي الحراك المـسلح ونشطـاء التنـسـيقيات عـن المؤتمر لم يـمنع اللـجنة التـحضـيرية له من الجزم بأن خطتها المطروحة هي الطريق الوحيد لإنقاذ سورية، هكذا… رُفعت الأقلام وجفت الصحف!.

من المعتاد أن يلاقي أنصار الهيئة انتقادات كالتي سبقت بالقول إنها تضمر تخويناً لأعضائها، ومنهم أشخاص لهم تاريخ نضالي عريق، لذا سيكون التوضيح واجباً في كل مرة؛ في السياسة لا يجوز الخلط بين الأخلاق الشخصية والأداء العام للأشخاص أو الهيئات الاعتبارية التي يمثلونها، وسيكون من باب الحيطة الواجبة عدم ادّعاء الموضوعية المطلقة في هذا الحكم على مؤتمر إنقاذ سورية، وعلى أداء هيئة التنسيق السابق للمؤتمر، فالسائد في السياسة هو قدرة كل طرف على استغلال الوقائع وتسييسها لصالحه، هذا إن لم يستطع خلق وقائع جديدة تتناسب مع تطلعاته. على ذلك تُقرأ واقعة المؤتمر من حيث قدرتها، أو عدم قدرتها، على تلبية هموم المؤتمِرين وما يدّعونه من تمثيل لتطلعات الشارع، وتُقرأ أيضاً من حيث خدمتها، أو عدم خدمتها، لأهداف الخصم الرئيسي وهو في حالتنا النظام. وإذا توصلنا إلى قناعة بأن أداء الهيئة يخدم النظام بأكثر مما يخدم الثورة فتلك نتيجة لا تذهب إلى اتهامها بالعمالة أو التواطؤ، لأن الواقعية السياسية تنأى عن محاكمة النوايا والشعارات النبيلة لتقيس الأداء بقدرته على تحقيق مقاصده المعلنة وحسب.

بالمثل لا يجوز للهيئة اتهام قوى معارضة أخرى بخدمة أجندات أجنبية، إذ من المرجح موضوعياً أن يخدم الضغطُ الداخلي على النظام أعداءه الكثر خارجياً، ومن المؤكد أن الثورة ككل قدّمت فرصة ذهبية لهم، بمن فيهم الأعداء التقليديون للهيئة والنظام معاً. إن «عفاف» فكرة الانتقال السلمي التي تتبناها الهيئة قد خرقه النظام بدماء عشرات الآلاف من السوريين، وعفاف فكرة السيادة الوطنية خرقته مشاركة الحرس الثوري الإيراني في أعمال القمع باعتراف ضمني من قادته، وعندما يتوسل المؤتمرون حماية روسية وإيرانية لعقد جلساتهم في دمشق فإن السؤال المنطقي هو: أأنتم متأكدون من رغبة الروس والإيرانيين في إنقاذ سورية حقاً؟!

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى