إنهم يقتلون الناس… أليس كذلك؟
يوسف بزّي
مساء الثلاثاء الماضي، بثت القنوات التلفزيونية شريطاً مصوراً، لمجموعة من أفراد الجيش السوري، تصحبهم مدرعة خفيفة. وهم في وسط إحدى ساحات مدينة حمص، يتحلقون حول رجل مدني جريح من سكان المدينة، سقط على الأرجح أثناء محاولته هو وأهل حمص، التظاهر والاحتجاج والمرابطة في شوارع المدينة وساحاتها. وهو الفعل الذي يداوم عليه المواطنون السوريون في ثورتهم وانتفاضتهم ضد النظام. فيما يستمر النظام، بواسطة أجهزته الأمنية وألويته العسكرية وميليشياته الرديفة، مواجهة هؤلاء المواطنين بالرصاص الحي والمدفعية وبشتى وسائل القمع وأدوات العنف، من غير اقتصاد أو تقنين.
ويظهر الشريط الرجل الجريح وهو يرتجف باختلاجات ضئيلة، توحي بأنه ما زال على قيد الحياة، رغم إصابته البليغة ونزيف دمه على الاسفلت، فيما الجنود المحيطون به يرمقونه ويدورون من حوله بفضول يخلو من أي تعاطف أو فزع ظاهرين. كانت هناك نبضات قليلة ما زالت في قلب الرجل الممدد على الأرض. لم نسمع أنيناً أو صوتاً يصدر عنه. بالكاد تلك الحركة الخفيفة من كتفه وربما أصابعه وفي عضلة الساق.
هناك في قلب حمص، وكما يُظهر الشريط، لا أحد من السكان، لا نافذة بيت مفتوحة ولا باب محل مشرّع. لا مارة على الرصيف، ولا ناس على الشرفات. خلاء من رعب يخيم على فضاء المدينة. فقط هناك تلك المدرعة، ناقلة الجند الروسية الرابضة قرب الجريح والجنود الذين بدا على بعضهم شيء من الحيرة والارتباك المكتوم، وهم يتفرجون على طريدتهم المدماة.
يخطو رجل يرتدي ثياباً عسكرية وحذاء رياضياً أبيض اللون نحو الجريح، ويركله بهدوء ليتأكد ان كان ما زال يتنفس، بحركة تنم عن إحتقار أو تشفّ أكثر مما تنّم عن “اهتمام” أو “شفقة”. فهو لم ينحني ليفحصه، فقط ركلة خفيفة كافية ليدرك العسكري إن الجريح ما زال ينازع أو هو على وشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
وهذا كله لم يدم أكثر من عشر ثوان قبل أن يتقدم واحد من بين العسكريين، ويبدو أنه ذو رتبة، ويستّل مسدسه بحركة حازمة وسريعة، ويقف على بعد متر ونصف المتر تقريباً من الرجل الجريح، مصوباً فوهة المسدس نحوه ومطلقاً رصاصاته القاتلة، التي اخترقت أنحاء عدة من جسم الجريح وتفجر بعضها في الإسفلت.
أنهى ذو الرتبة، قائد المجموعة، عملية الاغتيال في ثانيتين، واستدار من غير اكتراث، ليعيد ضبط مسدسه.
الشريط الذي انتشر عبر الانترنت على موقع “يوتيوب”، والذي يصوّر عملية الإعدام الميداني والإجهاز على جريح مدني، يشاطر قاتليه بالمواطنية السورية وهويتها، قام بتصويره بالتأكيد أحد أفراد المجموعة العسكرية. ومن غير المعروف كيف تم تداوله، ومن ثم وصوله إلى موقع “يوتيوب” والفضائيات التلفزيونية. والجندي المصوّر، الذي لم ترتجف يده وهو يوّجه كاميرته نحو مشهد القتل، لم يفصح عن غايته من التصوير، هل أراد على طريقته “توثيق” أفعال رفاقه؟ هل يعرف مثلاً نوع الجرم الذي يقترفونه أم يظن ان ذلك أمر “طبيعي” ومجرد تنفيذ أوامر عليا؟ وهل التصوير هذا أتى بمبادرة فردية منه على سبيل الهواية مثلما قد يفعل أثناء الاحتفال بمناسبة عائلية: عيد ميلاد إبنته مثلاً؟ أم أن التصوير البارد والخالي من أي انفعال، جاء بأمر عسكري، وبموافقة من السلطات وبتعليمات منها؟ كذلك من غير المعلوم كيف تم نشر وبث هذا الشريط. فهل الناشطون والمعارضون السوريون، هم الذين استطاعوا “شراء” الشريط أو الاستحواذ عليه كما يفعلون عادة وإيصاله إلى العلن، من أجل فضح ممارسات النظام وجيشه وميليشياته… أم أن أجهزة النظام نفسه تعمدت نشره كجزء من حرب نفسية جديدة ترمي إلى بث الذعر بين المواطنين السوريين؟
من المعروف أن نظام صدام حسين (البعثي أيضاً) كان يشجع على تصوير عمليات التعذيب والقتل ومن ثم يعمد إلى نشرها وبثّها وتشجيع تداولها (وبعضها بثه التلفزيون الرسمي) قاصداَ بذلك ترويع المواطنين وتعميم ثقافة الخوف وبث الرعب في قلوب من يتجرأ ويفكر بمعارضته. وكان هذا الأسلوب في العراق ناجعاً، طالما أن النظام لم يسع يوماً إلى تلطيف صورته أو إنكار قسوته، بل كان يمارس الإعدامات في الساحات العامة، من أجل إفهام الجميع واشهادهم على القصاص الذي ينتظر كل من تسول له نفسه الإعتراض أو الاحتجاج.
منذ اندلاع الثورة السورية كان واضحاً أن المحتجين والثوار، وعلى منوال سابقيهم في الثورات العربية، لجأوا إلى التقنيات الجديدة التي توفرها كاميرات الهواتف الخلوية وكاميرات الفيديو الصغيرة والأنترنت، من اجل اشراك الميديا في “الحدث” وكسر الرقابة الرسمية، أو من أجل استعمال الميديا نفسها لصنع “الحدث” . لقد استحوذوا على الصورة، فيما النظام عجز عن مواءمة خطابه (المؤامرة الخارجية، الجماعات المسلحة، الشغب) مع صورة تثبته وتؤكده. فهل الفشل هذا يدفع النظام اليوم للجوء إلى الأسلوب نفسه الذي يستخدمه الثوار، فيشجع جنوده وميليشياته على تصوير “أعمالهم” وانتاج الشرائط الخاصة بهم على غرار شريط اعدام الجريح؟
إن صحت تلك الفرضية، يكون النظام قد قرر استبدال استراتيجيته حيال محاربة الصورة وحجبها ومطاردة متداوليها إلى انتاجها على طريقة صدام حسين بوصفها سلاحاً صادماً وأداة تخويف وقمع مثلها مثل استعمال الدبابات في اقتحام المدن وترويع سكانها.
شريط إعدام المتظاهر الجريح الذي صوّره أحد العسكريين عن قرب، وبطمأنينة كاملة، جعله مختلفاً عن تلك الشرائط التي يصورها الناشطون عن بعد وشبه مختبئين. وقد بُث في اليوم نفسه الذي أصدر فيه الرئيس السوري بشار الأسد قانوناً جديداً يغلظ عقوبة التجمهر والتظاهر من دون ترخيص. فبعد أن كانت العقوبة في القانون القديم تنص على الحبس لمدة سنة كحد إقصى وغرامة قدرها مئة ليرة سورية، صارت وفق القانون الجديد تنص على الحبس لمدة أربع سنوات مع غرامة قدرها خمسون ألف ليرة سورية.
من الواضح، في لغة النظام، أن هذا القانون هو “رسالة” إلى المتظاهرين بأن “إرادة” القمع قد ازدادت إلى أضعاف ما كانت عليه، وأن القتل العلني هو مصير من سيواجه رجال الأمن والجيش. ويتضمن شريط اغتيال الجريح اعلاناً خطيراً ومتعمداً قد يترسخ في الأيام القليلة المقبلة: ارساء العداوة بين المؤسسة العسكرية التي يسيطر عليها النظام والشعب السوري
المستقبل