إنَّها مجرد منفضة!
أمجد ناصر
لا حاجة بسميح القاسم لكتابة سيرته. الحاجة (وهي موجودة كما سنرى لاحقا) تخصُّ الآخرين وتعنيهم. إنها حاجة الآخرين الى الوقوف على سيرة الشاعر الفلسطيني المعروف الذي يبدو أنه لمسها على نحو لم يستطع تجاهله فقرَّر الاستجابة لها فسطَّر كتابه الصادر عن دار ‘راية’ الحيفاوية بعنوان ‘إنها مجرد منفضة’. العنوان مغرٍ جدا، كما أنه زاهد بمتاع الدنيا ومتخفِّف من ثقل ‘الأنا’ وسطوة المنجز. هكذا يوحي لنا العنوان الذي يريد أن يقـــــول، ببساطة، إنَّ الحياة أشبه بـ ‘المنفضة’ التي يتساقط فيها رماد السيجارة! بل هذا بالضبط ما يقوله القاسم من وراء قناع ضمير المخاطب الذي يقود السرد: ‘أما لعبة النار والرماد فلن تتوقف هنا والآن، وبمثل ما يستمر تساقط الرماد من لفافات تبغك في منفضة سجائرك، فسيستمر تساقط رمادك، شعرا وجسدا وروحا وتجربة، في منفضة الحياة الدنيا، هذه المنفضة الهائلة اللامحدودة. أجل إنها هائلة ولا محدودة، ولكنها تظل في نهاية المطاف منفضة، مجرد منفضة’!
ولكن مع ذلك فإن هذا ‘الرماد’ ليس بلا قيمة، خصوصا قبل أن يتساقط في ‘المنفضة’ وينتهي إليها، فقد كان قبل ذلك شيئا آخر: حياة طويلة وعريضة تنطوي على ‘عقود من الزمن أبليتها في الوهم وعقود أخرى كرستها للحقيقة، مشيت على الشوك في مسالك الغنوصية، وسرت على الماء بين نور الشك العلمي وظلامه، وصفاء التوحيد وعلامات استفهامه، ومن هنا الى هناك أفشيت سرَّك وقبضت جمرك وأسلمت لله وجهك ويدك وقلبك وأمرك’!
ولأنه مولع بسيرة الصحابي أبي ذر الغفاري فقد وجد فيها عبرة وحضَّا على المضي في تدوين فصول سيرته، فقد هاله التباين في سرود سيرة الغفاري فتساءل القاسم في نفسه قائلا: ‘ماذا لو كتب أبو ذر روايته بنفسه؟ أما كان بمقدورنا أن نتعرف عليه من خلال دخيلته الجوانية بعيدا عن تفسيرات المجتهدين واجتهاد المفسرين؟’.
لا يجيبنا القاسم مباشرة على تساؤله هذا لكن الجواب معروف بالطبع، وهو الذي يدفع الشاعر الى تأثيث المسرح الذي ستدور عليه أحداث سيرته الذاتية ووقائعها، مبيِّنا، هذه المرة، حاجة الآخرين اليها من خلال تعداد فئاتهم وبسطها أمامنا فئة فئة: ‘وفي مرحلة من العمر تنهال عليك الاتصالات عبر البريد والهاتف والانترنت. تلاميذ وتلميذات في المدارس الابتدائية، طلبة في المعاهد العليا والجامعات، أساتذة وباحثون، يطلبون نبذة عن حياتك’، وعلاوة على هؤلاء ‘أصدقاء قدامى ومعارف من شتى المدارس والمذاهب والمجالس والمشارب (…) فتية طامحون الى الجدارة بولاية أمر المستقبل، يتساءلون بشيء من الحب وبشيء من القلق: ألا تحدثنا عن تجربتك؟ لماذا لا تروي لنا سيرتك الذاتية حتى نشحن سيرتنا نحن بمعرفة نرجو لها أن تفيد، وكي نستخلص عبرتنا الخاصة من خصوصية جحيمك ونعيمك’!
إذن، الحاجة، كما نرى، عامة، بل ماسَّة، ينتظم في سلكها تلاميذ المدارس الابتدائية وطلاب المعاهد العليا وأساتذة الجامعات والباحثون، الشعراء والكتاب الشبان والمعارف والاصدقاء القدامى من مختلف المشارب، وأمام هذه الحاجة ينبري قلم القاسم لتسطير كتابه مهتدياً بمثاله الخاص بأبي ذر الغفاري الذي لو كتب سيرته بنفسه لوقفنا على ‘دخيلته الجوَّانية’، التي قد تكون الحقيقة الغائبة وسط تباين الروايات وتضاربها. الحقيقة مهمة بالنسبة للقاسم وليست الكتابة بحد ذاتها، رغم أن الكتابة، هنا، هي وسيط هذه الحقيقة، لذلك فإن ‘حقيقته غائبة بين الكلام المفعم بالمدح الى جانب الكلام المفعم بالقدح.. فلا يرضيك هذا ولا يثنيك ذاك، إذ لا بدَّ من مرافعة تستند الى حقيقتك’. ولا يغيب عن شاعرنا ذائع الصيت أن الكتابة تسطير وتنصيصٌ وكشفٌ بقدر ما هي مراوغةٌ ومحوٌ وحرفٌ. فالكتابة قد تكون كشفاً لـ ‘الحقيقة’ ومرافعة في محرابها وقد تكون العكس: طمساً وتحريفاً ودفناً للمسكوت عنه عميقاً في باطن الكلمات. ولا يغير من أمر تبيان الحقيقة أو طمسها أنَّ يكون من يتصدى لها الكاتب نفسه أو غيره. فنصٌّ سيريٌّ بقلم الكاتب نفسه لن يكون نهاية مطاف ‘الحقيقة’ ولا كلمتها الأخيرة التي لا كلمة بعدها، كما أنه لن يثني الآخرين عن الحفر والتنقيب إن هم أرادوا.
وبما أن السيرة، مثل أي شيء آخر، تحتاج بداية فلتكن البداية من شجرة العائلة، فمن هناك تدلَّى الغصن الخاص بسميح القاسم في هذا العالم.. وشجرة العائلة ليست مجازا يُقْصَدُ به الأهل وسلالتهم ولكنها، هنا، ‘شجرة عائلة’ فعلية تكفَّل بإعدادها ابن عم له، كما أنها هي التي يفتتح بها المؤلف كتابه راجعاً بنسبه العائلي الى الجد السادس عشر! لكنَّ تعيين نقطة للبداية لا تعني تنظيماً وتبويباً للكتاب، كلا، لا يعمد القاسم الى أي نوع من التبويب أو التسلسل. تلك كرنولوجية لا يرغبها لكتابه لأنها قد تحتاج وقتاً وهو لا يملك ترف هذا الوقت. لذلك نرى الحكايات تتدافع، بمناكبها، على الورق. وكلما دخلت الحكاية في حكاية فرعية لا يلجمها قلم الكاتب ولا يؤجلها الى أن ‘يحين وقتها’ فقد لا يحين وقتها كما يدأب القاسم على التكرار.
اللافت أن الوقت الذي رأى الشاعر أنه داهمٌ ولا متسع فيه للتأجيل برهن على العكس. فالجزء الأول من الكتاب (غير المبوَّب) كُتِبَ، حسب ما هو مذيَّل به، في عام 2004 والثاني بعده بعام والذي يليه بعده بعام أيضاً. هذا يعني أن هناك ست أو سبع سنين تفصل بين تدبيجه الكتاب وتاريخ نشره عن دار ‘راية’ الحيفاوية في عام 2011. هذا وقت كاف، على ما أظن، ليعمل فيه مؤلفه تبويباً أو تعديلاً أو اضافة أو مراجعة ولكنه لم يفعل.. أو هذا ما نفهمه من سياق الكتاب. ليس الأمر، إذن، أمر وقت داهم وضاغط أملى على القاسم ‘تكنيك’ كتابه هذا.. بل، ربما، رغبته بهذا ‘التكنيك’ القائم، تقريباً، على الحواديت المتقافزة.. التي لا يربط بينها، تقريباً، سوى أسماء العلم (المشاهير).. وهي كثيرة جداً.
أراد سميح القاسم من وراء تدوين سيرته ‘إنها مجرد منفضة’ أن يقدم لنا أوجهاً من ‘حقيقته’ التي يخشى عليها من تجاذب المدح والقدح بعد رحيله ولكن أعترف أني فشلت في معرفة أي ‘حقيقة’ يقصد. نضاله الوطني مثلا؟ أم شراكته في ظاهرة ‘شعر المقاومة الفلسطينية’؟ أم تجنيده في الجيش الاسرائيلي عنوة؟ أم علاقاته ببعض الزعماء العرب مثل حافظ الأسد التي يتحدث عنها بتفاخر لم يستطع كبحه؟
لا أعرف، فعلاً، أي حقيقة أراد لها سميح القاسم أن تُسمع منه مباشرةً وليس من ‘المتحاملين’ عليه وهم، على ما تقول سيرته، كثر أيضاً.. ولكن إن كان الأمر يتعلق بالنضال الوطني فما مغزى أن يخبرنا، مثلاً، بلقائه العائلي بشمعون بيريس الذي سأله عن أسماء أبنائه (الموجودين معه) وحين قدَّم له القاسم ابنه ‘ياسر’ قام بيريس ‘بحركة مسرحية لافتة للنظر: أهلا يا صديقي ياسر.. تعال نتابع الحديث’! إشارة، بالطبع، إلى علاقة بيريس بياسر عرفات ومحادثات ‘عملية السلام’.
أي حقيقة يمكن أن نلتمس في حكاية لقائه بالديكتاتور السوري الراحل حافظ الأسد التي يوردها القاسم على هذا النحو بالضبط :’وفي زيارة لك الى القطر العربي السوري همَّ وزير الخارجية الدكتور فاروق الشرع بتقديمك الى الرئيس الراحل حافظ الأسد، فابتسم أبو باسل معلقاً: تريد أن تعرفني يا فاروق على سميح القاسم؟ من منا في سوريا لا يعرف سميح القاسم ولا يحفظ شيئا من أشعاره’!!
كتاب القاسم مليء باللقاءات مع المشاهير على اختلاف أنواعهم، وهناك العديد من الحواديت التي يرويها عن لقاءاته بهم، ولكنَّ المدهش هو ندرةُ حديثه عن الشعر كعمل فني وعن خياراته الشعرية وصلة هذه الخيارات بما تعرفه الساحة العربية من تيارات واتجاهات.. ناهيك عما يستجد في مشهد الشعر العالمي.
سيكون مدعاة لخيبة أمل طلاب ســــيرته الذين عدَّدهم (آنفاً) أنَّ ‘شاعر المقاومة’ فوَّت عليهم فرصة معرفة كيف تكوَّنت ظاهرة ‘شعر المقاومة الفلسطينية’ وعلى أية مفاهيم شعرية، وأي مؤثرات عربية وأجنبية لعبت دورها في تكوينها، وماذا كان رأي شعراء ‘المقاومة’ بما شهدته الساحة الشعرية العربية من تنازع بين تياري ‘الآداب’ و’شعر’ في الفترة نفسها التي شهدت بروزهم عربياً… إلى غير ذلك من الأسئلة التي هي في صميم الشعر ولا جواب لها، للأسف، في كتاب سميح القاسم.
القدس العربي