إيران قوة أولى في المنطقة… فهل هي قوة للخير؟/ مصطفى كركوتي
على رغم عدم توصل مفاوضات فيينا الأخيرة إلى إتفاق نهائي بين إيران وبين دول مجلس الأمن وألمانيا بشأن الملف النووي، فمن الواضح أن لكل من طهران وعواصم تلك الدول، وبالأخص واشنطن، أسبابها الخاصة لإبقاء خطوط الحوار مفتوحة في شأن جملة من القضايا، والتنسيق الكامل حول مسائل محددة تخص بالذات إيران والولايات المتحدة. وقد بات ممكناً القول الآن إنه لم يعد فشل المفاوضات، أو استكمالها، شرطاً لتقدم العلاقات بين البلدين. فعلاقات أميركا وإيران تتعزز وتتطور، والنقاش بينهما يستمر من دون معوقات في شأن قضايا ذات طبيعة استراتيجية في الشرق الأوسط، بل ما وراءه ايضاً، بعيداً حتى من مجرد التفكير بمسار التفاوض حول الملف النووي.
صحيح أنه لو اتُّفِق في شأن هذا الملف في فيينا، فإن إيران كانت ستشهد على الفور نهاية المقاطعة الدولية وفتح الأبواب عريضة أمامها لتطبيع علاقاتها مع بقية دول العالم على أكمل وجه. في الواقع هناك من يعتقد أن ثمة شراكة بين طهران وواشنطن تتوثق عراها يوماً بعد آخر، وهي كانت بدأت في التشكل العام الماضي، على رغم استمرار المقاطعة رسمياً. وكان بين دلائل الشراكة الواضحة صمت البيت الأبيض عن دخول ميليشيا «حزب الله» الأراضي السورية لدرء الخطر عن نظام الرئيس بشار الأسد، واستعادة تماسك قواته على طول الشريط الحدودي الضيق الفاصل بين حمص وأراضٍ لبنانية. فهذا الموضوع لم يعد سراً إذ إنهمك إعلام الولايات المتحدة قبل أسابيع قليلة بهذا الأمر وكُشِفَ كيف أن إدارة باراك أوباما تتعامل مع إدارة نظيره الإيراني حسن روحاني وكأن العلاقات بين البلدين عادت طبيعية ولا ينقصها غير وجود سفير أحدهما في البلد الآخر. فالاثنان يتشاركان في عدد من المصالح المهمة ذات الطبيعة الإستراتيجية للبلدين وذات الأهمية الحيوية الطويلة الأمد في آن واحد. وقد ركز الإعلام الأميركي على رسالة (من أصل أربع) بعث بها أوباما إلى زعيم إيران الروحي آية الله علي خامنئي، وأوحى فيها باعتراف واشنطن الصريح بنفوذ إيران الواسع في العراق وسورية، وكذلك في لبنان، من خلال دور نشط لـ»حزب الله»، وأن يكون هذا الأخير وحكومة الأسد فصيلين في ترسانة طهران.
فإن كان من طريق توفير الغطاء اللازم لحكم الأسد والحيلولة دون انهيار نظامه في العام الفائت، أو النجاح في منع رئيس وزراء العراق السابق العنيد والطموح، نوري المالكي، من البقاء لدورة ثالثة في رئاسة الحكومة والمساعدة في تشكيل حكومة أفضل تمثيلاً، فإن طهران تكاد تكون الحليف المفضل للإدارة الأميركية. ومن المهم ملاحظة كيف أنه حتى إسرائيل أصبحت في الأشهر القليلة الماضية أقل تمنّعاً إزاء نفوذ يتسع لإيران في المنطقة. فرئيس وزرائها بنيامين نتانياهو توقف عن تكرار تحذيراته الحادة من «إيران النووية»، والملاحظ أيضاً كيف أنه ومجموعات الضغط الموالية لإسرائيل في الكونغرس الأميركي دخلوا أيضاً نفق الصمت في هذا الخصوص. طبعاً كل شيء مرشح للتغير في ضوء وجود كونغرس خاضع للجمهوريين في مجلسيه، ووجود إسرائيل على عتبة حملة إنتخابات عامة جديدة إذ يتوقع أن يستعيد نتانياهو شغفه بالتخويف من شبح إيران النووي وخطر «حزب الله» على أمن واستقرار إسرائيل.
أضف إلى ذلك أن الرئيس روحاني يبدو، على عكس رئيس تركيا رجب طيب أوردوغان حليف الغرب التاريخي وعضو الناتو، أكثر سلاسة في تعامله مع سياسة واشنطن في الشرق الأوسط، بما في ذلك تشجيع جيش البيشمركه على مواجهة قوات «الدولة الاسلامية» (داعش). ولموازنة دور إيران الحيوي، يقوم معظم دول مجلس التعاون الخليجي، بما في ذلك السعودية والإمارات العربية، بدور نشط في المشاركة مع قوات التحالف الدولي بضرب أهداف «داعش» في سورية والعراق. ويرى متتبعون لهذا النشاط بأنه بعيد النظر في ضوء مستقبل أي ترتيب إستراتيجي مستقبلي في الخليج والشرق الأوسط في آن، لا سيما من ناحيتين: المحافظة على الذات في بحيرة ملتهبة في المنطقة ككل، والتأكيد على المصالح الوطنية.
ويكتسب هذا النشاط أهمية خاصة سيما أن ما تبقّى من عمر إدارة أوباما لا يزيد على عامين حيث سيسعى لإعادة تأهيل إيران، بوصفها دولة مهمة استراتيجياً وغنية في المـــوارد وقـــوة بشرية تزيد على 78 مليـوناً، في المجتمع الدولي، على أن يكـون ذلك إنجازه التاريخي في المنطقة قبــيل تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2016. أما كيف ستكون علـيه العلاقات بعد ذلك، فهذا موضوع آخر. ولكن في كل الأحوال يتوقع أن تستجيب طهران لمطالب دول مجلس الأمن الدائمة العضوية وألمانيا في دورة المفاوضات المقررة في حزيران (يوليو) المقبل، لا سيما أن إيران باقتصادها المنهَك باتت تنفــــتح على ثقافات العالم بما في ذلك ثقافة «الشيطان الأكبر». فحتى أواخر 2013 كانت طهران ومعظم إعلامها يرددان أن القتال ضـد الغرب وبخاصة الولايات المتحدة، مستمر، لكن ثمة متغيرات بدأت تظهر مذ إعلان الرئيس روحاني في مقابلة مع محطة «سي ان ان» في أيلول (سبتمبر) الفائت أنه ينــقل «رسالة سلام وصداقة من الإيــرانيين إلى الشعب الأميركي». وقد يقول قائــل إن رئـيس إيران السابق محمد خاتمي جرّب، في الانفتاح على واشنطن والغرب وفـــشل، ولكن هذا كان قبل 11 عاماً وما حدث خلال هذا العقد ونيف كثير وكثير.
لقد صمـــدت طهران أمام مقاطعة المجتمع الــدولي طوال ثلاثة عقود بناتج محلي عام يعادل 485 ملياراً وفقاً لأرقام البنك الدولي لعام 2011، ولكن تبدي المؤشرات تداعياً متصاعداً لقدراتها الاقتصادية فـــي المستقبل المنظور، ما يفسر احتمال تغلب رغبة روحاني في الإصلاح والانفتاح على معسكر التشدد والانغلاق. وإيران في النهاية تحتل موقعاً جيو-سياسياً مميزاً بحدود تجاور ثماني دول على الأقل في عمــوم آسيا وممرات هرمز والمداخل على بحر قزوين والمحيط الهندي والخليج، ما يجعلها قوة إقليمية كبرى من دون منازع. ولكن هل تكون هذه قوة للخير أم للشر؟
الحياة