احتفاء بالكتابة في ورشة نظمتها جائزة ‘بوكر العربية’ للرواية: ولم نسترح في اليوم الثامن!/ نسرين طرابلسي
قبل أن تلتقط أنفاسك التي سرقها جمال الصحراء تطل بوابة قصر السراب. مكان يباغتك مثل دهشة غير متوقعة. يذكرك فوراً بالأساطير. فأول ما تبادر لذهني وأنا أرى الجرار العملاقة تزين المدخل، أن الأربعين حرامياً في حكاية علي بابا ما زالوا مختبئين فيها بانتظار مرجانة. تتبدى لنا المدينة السياحية المبنية على طراز البيوت الإماراتية القديمة بألوانها الترابية ونخيلها المنثور في كل مكان. تحفُّ بممراتها أزهار الفتنة والياسمين التي تمنح الليل مزيجاً من رائحة الشمس والقمر والفرح والحنين. هل تتذكرون الواحات الضائعة التي تظهر كل عدة سنوات بأهلها وناسها وأسواقها في حكاية سندباد؟ إن قصر السراب ينبلج من قلب الربع الخالي سرّاً غامضاً.
في الليل تنسدل السماء سوداء فاحمة مخملية مرصعة بالشواروفسكي الربّاني. تكاد تتساقط من شدة السطوع، وتشتهي لو أنها ترسل مخلوقاتها وتسحبك إلى رحم هذا الدجى الكثيف. كل المجموعة الشمسية واضحة جلية وفي متناول اليد. والمصمم البارع عرف أن هذا المشهد الساحر سيخلب لب الناظر، فوضع دوائر نحاسية في أمكنة متفرقة بنقوشٍ لخارطة السماء. رأيت بأم عيني السبب وراء براعة عرب الصحراء في الشعر وعلم الفلك والأثر. الطبيعة هنا منبسطة وممتدة، لا متناهية وسخية اللغة. لكنك تصاب في البداية بانعقاد في اللسان والأصابع، ولا تجد سوى آآآآآآآآه ، كردة فعل أولى على جرعة مضاعفة من الجمال والسكينة والأمان.
ثمانية كتاب محتشدون بالأمل والإبداع ملأوا المكان ضجيجاً وصخباً. كل واحد منهم يحمل في رأسه جعبة أفكار ويطير على جناحي الأمل تاركاً وراءه عائلة وعملاً وأعباء، لاقتناص فرصة رائقة لكتابة شيء مختلف. اجتمعنا بدعوة من الجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر العربية)، للمشاركة في ورشة كتابة. الكل كان يسألني عندما عدت ما هي الجائزة ومن الذي فاز؟. لم يفهم أحد أن هذه الحفاوة بالكتابة بحد ذاتها جائزة وأن كل من وقع عليه الاختيار منا فائز.
لولوة المنصوري من الإمارات. أم وربة منزل. كم أحب هذه التركيبة عندما يرافقها لقب روائية. لم يتوقف أبناؤها الثلاثة عن الاتصال بها طيلة الوقت ولم تتوقف لحظة واحدة عن إدارة شؤون الحياة وإعطاء تعليماتها عن بعد. أصبحنا صديقتين من اللحظة الأولى بتواطئ الأمهات. لولوة الحائزة على جائزة دبي الثقافية أنجزت مهمتها الكتابية دفعة واحدة بنص كافكاوي لا يمكن أن تتخيل أن يعتمل مثله في رأس هذه السيدة الرقيقة! وبتأثر واضح بمدينتها رأس الخيمة وما يختبئ تحت ترابها من تاريخ وما يستعر من ألم الإنسان كتبت لولوة بعنوان تحت حجرتي ينام 115 ميتاً، عن الرعب الذي يلتهمنا:
‘ حظوظنا شاسعة في المقابر، من أراد ان يشتري بيتاً عليه أولا أن يجرب النوم لليلة واحدة في حجرتي، ودون أن يشعل الضوء.’
سمير القسيمي من الجزائر، روائي. شخص توافقي بكل معنى الكلمة. من اللحظة التي تلتقيه بها إلى أن يقرأ مقطعا من روايته في الورشة ثم يلوح لنا مودعاً بابتسامة مغلقة. لم يختلف أحد على أنه كان الشخص المفضل لدى الجميع. حكى لنا أنه وزع إحدى رواياته مجانا في كشك الكتب في مطار الجزائر بعد ثلاث سنوات مغمورة بتجاهل الصحافة. ولم يتوقف عن الكتابة. حائز على جائزتي الطاهر وطار وهاشمي السعيداني الجزائريتين ومرشح للقائمة الطويلة لجائزة البوكر. إنسان مدجج بالثقافة ومسلح بالتواضع. كتب نصاً بعنوان الحب في خريفٍ مائل، نص سلس أعجب المجموعة ولكن، رغم رفضي لكل التصنيفات، سأنتقم من كل من يصف كتابة المرأة بأنها نسوية وأقول إن نص سمير ذكوري بحت. يتتبع أفكار وهواجس رجل ستينيّ أثناء رحلة في قطار:
‘رأى أن الإيمان لا يمكن أن يستقر في روح رجل لم يستقر مع امرأةٍ قط. لذلك فشكل الإيمان وطرائقه غير مهمة تماما كشكل المرأة التي تعاشر وطرائق معاشرتها، ما دامت المتعة محققة في النهاية.’!!
نهى محمود من مصر، كائن من ضحكٍ ودمع. قلب مفتوح على الاتجاهات كلها يمشي على قدمين. ودفق إبداعي عفوي. غمرتنا بالمحبة وتركت صدى ضحكتها الرنان يتهادى فوق الكثبان وودعتنا بالأحضان والدموع. نهى صحفية، حازت على جائزة دبي الثقافية. ومنذ أن قرأت نصها بصيغته الأولى أصبحت حياتها قصتنا وقضيتنا. لا مواربة ولا تورية. دفق واحد صريحٌ ومعلن. كتابة تعرية أكيدة لواحدة من أسوأ القضايا التي تعترض المرأة العربية حتى اليوم، العنف. بنص بعنوان الكرسيّ كتبت نهى:
‘يبدو لي رغم ثورته وغضبه الأعمى انتقائياً في تكسيره للأشياء، هو لا يكسر في غضبه سوى أشيائي التي غالبا ما تكون غالية على قلبي وتحمل ذكريات سعيدة من حياة أخرى… زوجي ذلك الرجل الكريه طمع في كل الخسّة فسحب نصيب الحياة كله واحتفظ به، فتات الوضاعة الباقية اقتسمها العالم بين كل مخلوقاته قسمةً عادلة’.
أيمن العتوم من الأردن. روائي حقيقي يمتلك مشروعا كتابياً. يعرف ماذا يريد وإلى أين سيذهب في سرده. يستند إلى ثقافته التراثية والقرآنية وينتقي منها عناوين رواياته، ويتكئ على تجربته كسجين سياسي التي كانت أغنى تجربة في حياته حسب تعبيره. قال بأنه يقدّس زوجته. فحاز على إحترام الجميع. ليس لهذا فقط بل لمعرفته العميقة باللغة العربية وقواعدها، وإجادته التامة للحديث بها بأسلوب خطباء المنابر. أيمن ابن دين ولكنه أيضاً ابن دنيا، وبالشعر الذي يحفظه عن ظهر قلب وإلقائه المتمكن كان نجم السهرة الوحيدة التي رافقنا بها. فقد كان طيلة الوقت في غرفته يكتب عن.. نفرٍ من الجنّ:
‘إنه عفريت.. إنه عفريت’ صرخ ذو العمامة. كانت هذه الآهة في الليل المرتجف سبباً كافياً ليولي الثلاثة الأدبار على جمالهم، تاركين الجسد مسجى في البرزخ. مرت هنيهة بطيئة من زمن ما، عاد ذو النعامة في طرفة عين. أردف الجسد خلفه وغاب في الظلام من جديد!!’
بشرى المقطري من اليمن. بشرى تركيبة مميزة، أقلقتنا بمرضها ما أن وصلت وكادت شرطة أبوظبي تسعفها بطائرة الهليكوبتر. لقد كانت رحلتها طويلة من تعز إلى صنعاء ثم إلى أبو ظبي ومنها ساعتان إلى صحراء اللوا حيث يقع قصر السراب. لم يحتمل جسدها الصغير هذه المشقة. لكنها فتاة قوية استطاعت التماسك والمتابعة، تماما مثل قوة حديثها عن التاريخ والثورة. لم تخدعني عصبة رأسها الحمراء اليمنية التقليدية. فهذه الفتاة اليسارية حتى نخاع العظم حاصلة من باريس على جائزة فرانسواز جيرو للدفاع عن الحقوق والحريات، وجائزة قادة من أجل الديمقراطية من واشنطن. نصها الذي كتبته للورشة جاء منسجماً مع رسالتها في الحياة، الدفاع عن الإنسان. وتحت عنوان حياة ناقصة كتبت:
‘لم تشعر بالغضب ولا بالخزي ولا بالكراهية نحو النسوة اللاتي يحتقرنها، فلو لم تكن من البانتو لعرفت كيف تصفع وجوههن المتكبرة أو تبصق عليهن وتشتمهن. ولأنها من البانتو فلا شيء أبداً كان في قلبها. فقط شعور صغير بتفوق الضحية حين تقاد إلى المقصلة دون ادعاء الشرف في لحظة يتساوى فيها الحياة والعدم، الخير والشر، تصبح هي حرة للحظة فاصلة في تاريخ عرقها’.
عبد الله العبيد من السعودية. فتى لطيف بإمكانه ببساطة أن يحافظ على ابتسامة عريضة فيتوج شخصا محبوباً بين أفراد المجموعة. صحيح أنه موهوب في الكتابة لكنه يهوى الغناء والموسيقا ويمارس الكوميديا الارتجالية منذ أربع سنوات. رفض رغم إغراءاتنا وضغوطنا أن يقدم لنا شيئا من فنه. فاحترمنا رغبته أنه جاء كاتباً فقط. كتب أثناء الورشة نصين وعلى الفور تبدت خصوصية البيئة السعودية وهمومها. إبداعياً، هو كاتب تحفل لغته بالتشابيه البلاغية. ويحتل الفن جزءاً كبيراً من تفكيره. من نصه الأول ثقبٌ وماء أختار العبارة التالية:
‘انساب صوت عقال الأب وهو يرتطم بالأرض، مثل سوط جلاد أجبر أن يرسم ذكريات على ظهر معتقل لايملك ظهره من الحيلة إلا أن يخرج الصدى على مقام البيات.’
ومن نصه الثاني خمسون عاماً من الدوزنة:
‘خرج عملاقٌ ضخمٌ بلحية كثة وشماغه على كتفه. كان يلهث بشدة ويمسك بآلة كمانٍ صغيرة. بدت لي كأنها تستنجد بنغمة يائسة تبحث عمن ينقذها من براثن خاطفها’.
هشام بن شاوي من المغرب. هشام حكاية لوحده. لم يسلم أحد من لذاعة انتقاده خارج الورشة. بعد أن قرأ نصه في اليوم الأول، والذي كتبه على شكل يوميات، اختار العزلة والانطواء. بدا وكأنه لم ينسجم مع المجموعة أبدا. مما جعلنا نحدث منسقة الورشة فلور مونتانارو ونطلب منها أن تكلمه لينضم إلينا. يحكي عن طفلته الصغيرة بمنتهى الحب. غير ذلك يبدي سخطاً على كل شيء. لعله شديد الحساسية ويتخذ من الهجوم أفضل وسيلة للدفاع! ربما. رفض أن يتكلم عن التجربة عندما جاء الصحفيون للقائنا في اليوم الأخير. هشام حائز على المركز الثالث في جائزة الطيب صالح. ولعل هذا المقطع من نصه الذي خطه للورشة يوضح تماما بعض الهموم التي ينوء بحملها الكاتب العربي في هذه الظروف الصعبة:
‘لقد أربكك هذا الربيع العربي، كنت تحاول أن تقحمه في روايتك الثالثة. صديقك الناقد حدثك محبطاً عن محرر صفحةٍ ثقافيةٍ غبي رفض مقاربته لروايتك، لأنه (إخواني)، متحيز لكل ما يطبل للثورة. طلبت منه عنوانه الالكتروني، حتى تسبّه، وتوضح له أنك تكتب عن هذا الربيع المزعوم منذ بداياتك.. ألا يدين مهمشو وعاهرات قصصك القصيرة هذه الأنظمة العربية المتهالكة؟!’.
من سوريا. لبيت دعوة الورشة تاركة ورائي كل شيء. حتى أنني لم أحضر معي نسخاً من كتبي التي أصدرتها لأهديها لمن يبدي اهتماماً. أحببت أن آتي لأتعلم شيئاً جديداً لم أكن أمتلكه من قبل. كانت الثورة السورية في ضميري، ولم أستطع أن أكمل حديثاً واحداً من دون أن أقحم فيه هم الوطن وآلامه المتفاقمة. وعلى الرغم من روعة قصر السراب وجمال الطبيعة والرغبة العارمة التي تجتاحك في مواجهته بشرود سادر. بقيت تتقاذفني مشاعر متضاربة تقلقني وتنغص علي بغصة شائكة. ماذا لو تسنى لكل مسكين أن يقضي ليلة في هذا المكان المرفه؟ ليلة واحدة يريح فيها جسده على الفراش الوثير ويأخذ حماما ساخنا في الحوض الفسيح ويتدثر بالروب الأبيض القطني الناعم، ويتنسم هواء معطراً خاليا من رائحة الحرائق والدم والبارود. ماذا لو تسنى لجياع مخيمات اللاجئين أن يقضوا يوما في البوفيه المفتوح لمطعم الواحة ويتذوقوا لمرة واحدة طعم السومون فوميه والسوشي واللحوم المدخنة والأرز بالكاري. ليتني أستطيع أخذ هذه الطاولة المحملة بأصناف الخبز الرائعة، المنفوخة والمضفورة والمكورة المخبوزة بالزبدة والحليب وأرميها فوق جياع الغوطة الشرقية. كيف يمكن لحكام هذه الصحراء أن يجعلوا منها جنة حقيقية خضراء تمور بالماء والحياة، بينما يحول حكامنا فردوس الشام إلى كومة دمار معجونة بالدم بعد أن امتصوا شرايينها وتركوا شعبها العزيز الكريم مهجراً وحافياً ويستجدي الأمان في بلاد تضيق عليه وتسد في وجهه أبوابها. كيف للشام ذات الطقس المعتدل والفصول الأربعة والخلد الذي وعدوا به، أن تتصحر وتجف وتتحول إلى بلد الهباب والغبار والأشلاء ونثار الرماد، بينما أتجول في قلب مكان تحرسه الكثبان الرملية فلا تطالنا رطوبة ولا دبق ولا حرارة زائدة كأن الجسد قد عاد لأصل الصلصال ليتماهى وينتشي.
وسط هذا الحشد من الأفكار علقت لعدة أيام. زاد على هذا الحال عدم ارتياحي على كرسي المكتب الوثير الأشبه بالعرش. فهو أكبر بكثير من حجمي، لا أستطيع أن ألصق ظهري بالمسند لأن قدمي سترتفعان عن الأرض وأفقد نقطتي استناد للثبات. ولا أستطيع أن أجلس وقتاً طويلاً على حافته لأنني أحس طيلة الوقت أنني على وشك السقوط. ناهيك عن أن الطاولة عالية جداً وبقاء رسغي عالقين في الهواء طيلة الكتابة حالة لا تناسب أبدا مصابة مثلي بالتهاب عصب الرسغ، المرض الذي يصيب عادة ربات البيوت والكتاب والحلاقين وكل من يستخدمون أيديهم بأعمال شاقة فتصبح نقاط ضعفهم. أما لاب توبي فبطاريته العجوز يجب أن توصل دوما بسيروم الكهرباء وإلا نازعت بعد دقائق معدودة وابتلعت معها كل ما كتبت.
بعد أن اعتذرت مني خدمة الغرف لعدم وجود وصلة كهرباء طويلة لأستطيع تغيير مكان جلوسي المتعب والتجول باللاب توب، كانت صدفة سعيدة أن ألتقي عامل الصيانة يبدل مصابيح الممر، وبعد خمس دقائق كانت بحوزتي وصلة كهرباء طويلة جعلتني أقضي في السرير ليلة كاملة أحتضن اللاب توب وأداعب الكلمات وأستسلم لإغراء الكتابة. ومن براثن الغربة وعالم الإعلام والأخبار الذي أتيت منه مهنياً انتزعت ثلاثة آلاف وستمئة كلمة كفصلٍ من نص روائي، قرأته في الورشة في اليوم التالي:
‘ من مرافقة الموت ورؤية الدمار تعلَّمَتْ أنه في كل حربٍ ثمَّة شيء يموت داخل الإنسان ويولد فيه شيء أخر. في العراق ماتت آلامها الصغيرة، وولدت فيها بقوة رغبةُ النجاة. كانت تتماسك بشجاعة وأزيز الطائرات يصم أذنيها عن ختام جملتها، ودخان الانفجارات يغطي المساحة التي تقف وسطها لتنقل الحدث.’.
كل كاتب لديه أنا. أنا ضخمة ومتورمة. في ورشة الكتابة تشفى تماما، يصبح عليك أن تسمع وتنصت لإبداعات الآخرين. يتقلص الغرور الشخصي إلى حدوده الدنيا. وتحترم كل هذا الشغف الذي يحيط بك. خصوصا وأنت تحت إشراف أديبين مميزين مثل محمد الأشعري الروائي من المغرب، ومي منسى الروائية من لبنان. اللطف والدماثة والتهذيب وخفة الظل هي ما تجعل الإنسان كبيراً وقديراً. أن تبدو مستعداً لتعطي من نفسك ومن خبرتك. أجزم أنه ليس للعمر علاقة بهذا الأمر. فمي منسى طفلة مستعدة للبدء بمصافحة الحياة في كل لحظة. تضحك وتغني لفيروز وعبد الوهاب وتوزع الإشادة والإطراء بأمومة على الجميع. ومحمد الأشعري شيخ الشباب، بابتسامة لا تفارقه وملاحظات أنيقة على كتابتنا مهما حزمت أمرها وقست تبقى ملفوفة بأبوة من حرير. في الحقيقة خرجت وقد امتلأت جوارحي بالعلاقات الإنسانية الطيبة. أما فيما يتعلق بالملاحظات على الكتابة فتدخل دائرة الاحتمالات حيث لا يوجد خطأ مطلق ولا صواب مطلق، وكانت في مجملها قابلة للنقاش. خاصة وأن كل الكتاب المشاركين لديهم خبراتهم الخاصة وأساليبهم المتفردة وتجاربهم الكتابية في القصة والرواية، والأهم أنهم قراء من الطراز الرفيع.
أما زهرة المجموعة ومنسقة جائزة البوكر، التي انضوينا تحت بتلات نعومتها، فكانت فلور مونتنارو من بريطانيا. وفلور اللندنية بحد ذاتها شخصية روائية بامتياز. وراء هذا العود الرقيق والرأس الأشقر والعينين الزرقاوين الصافيتين والابتسامة المسورة بغمازتين واللهجة الشامية، إنسانة لا تعرف التذمر ولا الغضب. سكنت في دمشق بعد أن عملت سبع سنوات في موريتانيا. لذا تشعر أنها تحمل دفء شمسنا ولغتنا بروحها من أقصى المشرق إلى المغرب. وأعتقد أن اختيارها لهذه المهمة صائب مئة في المئة. ففلور تقوم بماعليها بهدوء وبكل اقتدار من دون أن ترتكب خطأ واحداً. في الحقيقة، أعتقد أن الخطأ عندما ترتكبه فلور يستحيل صواباً.
في اليوم الثامن والأخير، بعد أن حزمنا حقائب السفر، كان علينا أن نقابل مجموعة من الصحفيين لنتحدث عن التجربة. كان من نصيبي حوار مع ال GULF TIMES وأوفدت هيئة السياحة والثقافة في أبو ظبي مصوراً محترفاً ليلتقط لنا صورا للذكرى. أخذ الأمر وقتاً طويلاً فلم نتحرك على طريق العودة حتى المغيب. احتضنت صديقاتي الجميلات المبدعات المحاربات. لم نتمالك دموعنا أنا ونهى. فمغادرة ثمانية أيام من نعيم قصر السراب تعني العودة إلى معركة الحياة الشرسة. العودة لمجابهة ثورات شعوبٍ يجهد كثيرون بضربها على بطنها لتجهض أحلامنا في الدولة المدنية والحرية والعدالة الاجتماعية. العودة لنثبت أنفسنا في مجتمعاتنا كجيل حارب طويلاً من أجل مكانة كريمة. العودة لبيوتنا لنؤمن عيشاً كريما ولقمة مغمسة بالحنان والحلال لا يدخل الذل في مكوناتها.
أعطيتِنا فرصة ثمينة لنستردَّ أنفاسنا المقطوعة، شكراً جائزة البوكر.
كاتبة من سوريا