صفحات العالم

اختراع فكرة الأقلّيات ودلالاتها..

ماجد كيالي

لعلّ من أهم تداعيات ثورات “الربيع العربي”، على الرغم من كل مشكلاتها ونواقصها وثغراتها، ظهور المجتمعات على مسرح التاريخ، لأول مرّة في المنطقة العربية، وتعرّف عامّة الناس على مفهوم المواطنة، وحقوقهم وواجباتهم، وتفتّح إدراكاتهم على مفاهيم السياسة، ومصطلحاتها، ومؤسّساتها، وطرق عملها.

لكن السياسة، أيضاً، ليست شيئاً واضحاً، أو بسيطاً، أو ناجزاً، حتى يصبح فهمها أو هضمها عملية سهلة وميسّرة، فهذه على وجه الخصوص أكثر نشاط، عرفته البشرية في تاريخها، يجري فيه تطويع المبادئ والأفكار والشعارات والمصطلحات لتوازنات السلطة والهيمنة، ضمن شبكة معقدة من عمليات التلاعب والمواربة والتوظيف.

هكذا، مثلاً، جرى حجب التمييز بين الطوائف والطائفية، والقطع بين مفهومي التحرير والحرية، وتبرير الاستبداد بحجّة المقاومة، وإعلاء شأن العصبية القومية لتقويض الدولة الوطنية، وتأجيل الديموقراطية بدعوى صيانة “السلم” الاجتماعي، وادّعاء الخصوصيات الدينية أو الثقافية لمقاومة التجديد والتطوير ومحاكاة العالم.

في هذا الإطار، أيضاً، يمكن التعامل مع مصطلح “الأقليّات”، باعتباره من أكثر المصطلحات التي بات يجري التلاعب بها، وتوظيفها، من قبل النظم الاستبدادية، في محاولاتها تبرير ذاتها، وترسيخ هيمنتها على البلاد والعباد، بدون رقيب أو حسيب.

ولاشك أن هذا يظهر جليّاً في خطابات النظام السوري، الذي بات يروّج لنفسه باعتباره “حامي الأقليات”، بعد أن أمعن في إفساد الحياة العامة، وصادر تاريخ سوريا، وبدّد ثقافتها، وهمّش كل مكوّناتها المجتمعية، ناهيك عن تحويله البلد إلى مجرد مزرعة وراثية.

ومن مراجعة التجربة السورية، يمكن ملاحظة أن النظام السوري اشتغل على هذا الأمر في إطار ثلاث عمليات مترابطة، أولها، تتمثّل بحؤوله دون قيام دولة المواطنين الأحرار والمتساوين. وثانيها، تتمثل بانتهاجه سياسة “فرق تسد” بين المواطنين، وإقامته جدران وسدود وخنادق بين مختلف الأطراف المكونة لمجتمع السوريين. وثالثها، تتمثل بتنميط المجتمع، وإنكار حال التنوّع والتعدّدية فيه، لحجب طبيعته كسلطة استبدادية. وطبعاً، فإن هذه العمليات تضافرت في مجمل الأحوال مع تسلط النظام على الدولة، واحتكاره لمواردها، ومع تغوّله على المجتمع بواسطة الأجهزة الأمنية الواسعة والمتشعّبة.

على ذلك، يمكن النظر إلى فكرة “الأقليات” الدينية والإثنية باعتبارها من اختراع النظم الاستبدادية الشمولية، فهي التي تشتغل عليها، وتحوّلها إلى عصبيّات هوياتية، تماماً مثلما يحصل في شأن دفع الطوائف نحو الطائفية، أو في شأن اختراع الطائفية لأغراض سياسية.

ويفيد الحديث عن فكرة الاختراع هنا بأنه لا يجوز تحويل جماعات من المواطنين إلى “أقليات” على أية خلفية كانت، أو لأي سبب يميّزها، فهذا قد يجوز، فقط، على جماعات بشرية وفدت في مرحلة تاريخية معينة الى بلد ما من خارجه، لكنه لايشمل الجماعات الدينية والإثنية التي تعيش فيه عبر التاريخ.

والمعنى، أنه لا يصحّ، ولا بأي حال، اعتبار الطوائف الدينية (مسيحية أو إسلامية سنية وشيعية ودرزية وعلوية واسماعيلية) مجرّد أقلّيات، فالطوائف شيء والأقلّيات شيء آخر. وبديهي أن ذلك يشمل الجماعات الإثنية، أيضاً، مثل الأمازيع في المغرب والكرد في المشرق والنوبيين في صعيد مصر، فهؤلاء ليسوا أقلّيات، كونهم لم يهبطوا من السماء بـ”البراشوت”، ولم يأتوا من الخارج، وليس لهم وطن آخر، وإنما هم سوريون، ولا يقلون في ذلك عن غيرهم بأي شيء.

ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني، أولاً، أن النظم التسلّطية، التي هيمنت لعشرات السنين، وحالت دون قيام دولة المواطنين ودولة المؤسسات والقانون، هي المسؤولة عن ضعف الاندماج الاجتماعي بين مواطنيها، كما عن إبقائهم عند حيّز الانتماءات قبل الوطنية (العشائرية والطائفية والمذهبية والإثنية).

ثانياً، فإن هذا يعني أن مصطلح “الأقليّات” مصطنع ومزيّف وملتبس، كونه يخرج مواطنين كثر من نطاق المواطنة، ويعاملهم كغرباء أو وافدين أو طارئين على وطنهم، كأنّ لهم وطن أخر. ومثلاً، فليس من المعقول يوسف العظمة وابراهيم هنانو وجول جمال وفارس الخوري وسلطان باشا الأطرش، وغيرهم كثر، من الشخصيات التي أسّست لتاريخ سوريا، وصاغت هويتها الحديثة، بمثابة “أقلّيات”، فهذا اجحاف ليس بحق هؤلاء فقط، وبحق ما يمثلوه، وإنما هو اجحاف بحق سوريا، الدولة والمجتمع، وبتاريخها وثقافتها.

وتبدو معضلة السوريين خصوصاً، ومجتمعات المشرق العربي عموماً، أن اجماعاتهم، بمعنى مشتركاتهم واختلافاتهم، كانت تأسّست على مقولات وشعارات وهويات وعصبيات ماقبل وما فوق وطنية، أي قبلية ودينية ويسارية وقومية وأممية، أي أنها لم تتأسّس على المواطنة، وعلى الحقوق، وعلى كونهم مواطنين أفراد، متساوين، في وطن متعيّن.

ويستنتج من ذلك أن الوعي بالمواطنة، وحقوق المواطنة، والتي تحيل المجتمعات إلى مجتمعات حقاً، والتي تجعل الدول دول حقا، كانت هي الغائب الأكبر خلال العقود الماضية، بعد أن غيّبتها نظم الاستبداد، بديماغوجيتها، وشعاراتها، وادعاءاتها الفارغة والمزيفة والعبثية.

جدير بالذكر أنه ليس ثمة مجتمعات أو دول صافية، دينياً أو عرقياً، فكل البلدان والمجتمعات تنطوي على مكونات دينية وإثنية وهوياتية مختلفة، لكن في البلدان ذات النظم المستبدة فقط يتم اختراع فكرة، أو سياسة “الاقليات”، لأغراض التلاعب، وترسيخ الاستبداد، والتملص من دولة المواطنين الأحرار. بالمقابل ففي البلدان الأخرى، حيث تسود دولة المؤسسات والقانون والمواطنين، فهي تفتخر بتنوعها الديني والإثني وتستثمر فيه، باعتباره دليل عافية وحيوية وغنى. أي أن هذه الدول تعترف بتنوع مواطنيها، وتعدديتهم الهوياتية والدينية والإثنية، ولكن من دون الحاجة إلى فكرة الأقليات أو سياسات التلاعب بالأقليات أو بالطوائف.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى