استثنائية سوريا… مسؤوليات استثنائية
حازم صاغية
تحولت الثورة السورية، في نظر بعض المحلّلين والمراقبين، إلى «أزمة سورية» من طبيعة إقليمية ودولية، تنخرط فيها بلدان الغرب والعرب وتركيا وروسيا وإيران، بل الصين كذلك. كما تحوّلت، في نظر بعض آخر منهم، إلى حرب أهلية مستعرة تتبادل حممها الطوائف والجماعات والمناطق والإثنيات جميعاً. وغالباً ما يرد التقديران في افتراض واحد وعبارة واحدة.
لكنْ بغضّ النظر عن مدى دقة هذين التقويمين أو عدم دقتهما، وهذه مسألة أخرى، فإنهما يدلان على الطبيعة المهمّة، بل الاستثنائية، التي ينطوي عليها الحدث الثوري السوري. فإذا أضفنا درجة العنف غير العادي الذي استخدمته سلطة الأسد برّاً وجوّاً، وأعداد القتلى والمصابين والمهجّرين التي لا تكفّ عن التزايد، ومدى الاستطالة الزمنية التي لم تعرفها أيّ من الثورات العربية الأخرى، اكتملت عناصر تلك الأهمية القصوى التي تحظى بها سوريا وثورتها.
وهذا إنما يعود إلى أسباب ثلاثة متفاوتة المصادر يختلف البلد المذكور فيها، أو في بعضها، عن البلدان العربية الأخرى، أكانت تلك التي عرفت ثورات «الربيع العربي» أو تلك التي لم تتعرّض لها أصلاً.
أمّا السبب الأول فيرجع إلى الموقع الجغرافي لسوريا التي تجاور كلاً من العراق والأردن وإسرائيل ولبنان وتركيا. وحين نعدّد هذه البلدان فإننا نعدّد كلّ هموم المشرق العربي وقضاياه على نحو أو آخر: من الصراع العربي- الإسرائيلي إلى المسألة الكردية في تركيا والعراق إلى مسائل الأقليات والجماعات في سائر هذه البلدان، من دون أن ننسى الوقوع على مقربة من خزّان العالم النفطي في العراق والخليج. وقد أضاف التحالف السوري – الإيراني الذي بني في عام 1979، لاسيّما بعد التقرّب العراقي الأخير من طهران، قدرة هائلة للتأثير السوري في مجريات الصراعين الإقليميين العربي- الإيراني والسني- الشيعي.
وربّما جاز القول إنّ لبنان ظلّ، على مدى أربعة عقود، الساحة المثلى لاستعراض هذه القدرة السورية التي طوّرت كفاءاتها في التعامل مع جميع المسائل المعقدة، ابتداء بالمسألة المسيحية- الإسلامية في السبعينيات، ثمّ تلك اللبنانية- الفلسطينية في السبعينيات والثمانينيات، وأخيراً المسألة السنية- الشيعية منذ التسعينيات.
ويعود السبب الثاني وراء الاستثنائية السورية إلى تركيبة وتوجّهات النظام الذي أنشأه الأسد الأب في عام 1970 ثمّ ورثه عنه، في عام 2000، نجله بشّار. فهذا النظام الذي طمس الداخل السوري حتى كاد يلغيه بالكامل، فعطّل كلّ حراك محتمل فيه، استعاض عن الداخل هذا بالتعويل على السياسات الخارجية، أي بما عُرف في لغة التداولين الإعلامي والديبلوماسي بامتلاك أكبر عدد ممكن من «الأوراق» التفاوضية والاحتفاظ به. وكان لهذا النهج، الذي ساهم في التدمير النشط للبنان والفلسطينيين وتسهيل عبور الإرهابيين إلى العراق، أن جعل حركة الانعكاس المتبادل بين الداخل والخارج بالغة الشفافية والمباشرة. فما يؤثر في سوريا يؤثر في كمّ ضخم من الدول والقضايا، والعكس بالعكس.
والحال أنّ هذا التبديل الأسدي في أولوية الداخل والخارج، مرفقاً بالاستفادة من التطوّرات الملائمة التي هبّت على المنطقة، هو الذي يفسّر صفات الذكاء الخارق والعبقرية الاستراتيجية غير المسبوقة التي كثيراً ما أُسبغت على حافظ الأسد وطريقة حكمه الدموية والبطّاشة.
وغني عن القول، من ناحية أخرى، إنّ القصف الجوي المكثف الذي تعرّض له، قبل أسبوع، مخيّم اليرموك الفلسطيني، جنوب دمشق، برهان لا يخطئ على وظيفية هذه «الأوراق» وعلى انعدام المبدئية في استخدامها. وهذا لا يعدو كونه مثلاً واحداً على نهج يضجّ بالأمثلة المشابهة.
وأمّا السبب الثالث فيتعلّق بتاريخ المشرق العربي الآسيوي الذي تحتلّ سوريا إحدى أوسع مساحاته وموقع القلب منه. ذاك أنّ العالم ما بعد العثماني بمِلله ونِحله وبمعاندته الانتقالَ إلى الدولة- الأمّة الحديثة، إنما بلغ في سوريا كمالاً لم يبلغه في أيّ مكان آخر. يكفي التذكير بتاريخ الانقلابات العسكرية ما بي عامي 1949 و1970 والتي لم ينافسها عليه إلا العراق في الحقبة ذاتها تقريباً. وهذا إنما كان دليلاً لا يخطئ على صعوبة عبور البلد إلى استقرار وعادية سياسيين. بل يكفي التذكير بأنّ سوريا، في عام 1958، ألقت نفسها كليّاً في أحضان مصر وجمال عبدالناصر علهما ينقذانها من استعصاءاتها وتناقضاتها الكبرى الناجمة عن ضعف الإجماعات فيها. هكذا، ولهذا السبب، أنشئت «الجمهورية العربية المتحدة» التي لم تعمّر أكثر من ثلاث سنين مضطربة لتنحلّ في عام 1961.
في هذا المعنى فإنّ تغيّراً يطال سوريا سيكون اليوم أقرب إلى الحدث الجيولوجي منه إلى الحدث السياسي. فهو يمهّد لإعادة نظر تطال الأشكال والخرائط والحدود السياسية القائمة، كما لو أنه يعاود استنطاق التاريخ الحديث لسوريا والسوريين، وربّما تصحيحه أيضاً. وهذا ما يبرّر قول البعض إنّ انهيار النظام الأسدي سيكون تأثيره على المشرق العربي وجواره من طينة التأثير الهائل الذي خلفه تداعي الاتّحاد السوفييتي السابق وكتلته الشرقية على عموم أوروبا الوسطى والشرقية.
وتلك الأهمية السورية الفائقة التي استُعرضت أسبابها أعلاه، تطرح اليوم بإلحاح شديد المسؤوليات التي يرتبها الانتقال إلى ما بعد الأسد، وما بعد الأسدية عموماً، ومنهما إلى رحاب المستقبل. ذاك أنّ النظام القائم غدا في حكم الساقط، وهو ما بات حلفاؤه الروس أنفسهم يقرّون به، على ما جاء على لسان نائب وزير خارجيّتهم بوغدانوف. لكنْ إذا كان اكتمال السقوط الجسدي مسألة وقت، فهذا ما يعني الانتقال إلى مشكلات لن تكون بحال من الأحوال أقلّ صعوبة من مشكلة إسقاط النظام. والأمر، هنا، يعني، فضلاً عن السوريين بطبيعة الحال، كلّ شعوب المنطقة وجميع القوى الفاعلة إقليمياً ودولياً.
إنّ استثنائية سوريا هي، في معنى ما، مسؤولية استثنائية تتقاسمها أطراف كثيرة، بعضها يتعلّق بالتركيب الداخلي للبلد وبعضها بأمن الإقليم الذي تحتلّ سوريا موقعاً مركزياً فيه. فهل تكون الاستجابة في حجم التحدّيات؟
الاتحاد