استطلاع رأي:متى وأين تكتب القصيدة؟
أجرى الاستطلاع: هاني الملحم
ما هو الوقت الذي تنتظره لكتابة قصيدتك؟
وكيف كانت ردة فعلك حين فاجأتك القصيدة بموعد غير متفق عليه؟
أين تحدث اللقاءات السرية والعلنية بينك وبين قصيدتك؟
لا يمكن للكاتب مهما بلغ من مجد، ومهما علا شأن مقدرته اللغوية والشعرية أن يتجرد من اللحظة التي وخزته بها القصيدة، ولا من المكان الذي استدرجته ظلالها إليه. ولا يستطيع أن ينكر تأثير الزمان فيما يختلج صدره من ذكريات أو مواعيد أو لحظات هامة وربما عابرة في حياته، ولا يقدر أن يهرب من سطوة الأمكنة التي تظهر حينا كوطن يأويه، وحينا كسجن يدفن في جدرانه ما يعتريه من أوجاع، وأحياناً أخرى تكون الأمكنة شاهدة على أول لقاء، وعلى فراق مطرز بأحزانه الناضجة.
وكثيراً ما ألقت القصيدة نفسها في حضن الشاعر، وتلحفت بخياله في أوقات غير متوقعة، ولطالما فاجأت الشاعر بحضورها الذي يسبق حضوره في أمكنة لم يخطر بحبره يوماً أنه سيصافح قصيدة، ويعانقها في ذلك المكان.
فما بال الشاعر حين تتبدل عليه الأمكنة التي اعتاد أن يبثها أسراره، فيجد نفسه فجأة في مدينة جديدة وشوارع مختلفة وتفاصيل لم يعايشها من قبل؟
كيف ستغدو قصيدته الجديدة؟ هل ستظل محتفظة بحنين المكان الأول أم ستقيم علاقة حميمية أو عابرة مع المكان الجديد؟
أي ملامح ستظهر على أسلوب النص في ولادة مباغتة للقصيدة؟
أين يتجلى تأثير الزمان والمكان على النص:
في الصورة أم في البنية الدلالية للقصيدة؟
والسؤال الذي يراود القارئ، ويحرض فضوله لاكتشاف عوالم أخرى في القصيدة:
هل يستطيع الشاعر أن يبحر في أزمنة جديدة، ويسافر إلى أمكنة لم تطأها قدماه؟ وما هي السبل لتجسيد ذلك الحدث؟
كل هذه الأسئلة كانت ضيوفا في حضرة عدد من الشعراء الذين باحوا لنا بتلك التفاصيل التي تشغل حيزاً شاسعا من قصائدهم.
البداية كانت مع الشاعرة السورية ‘‘أريج أحمد حسن’’ التي عبرت عن توقيت الكتابة قائلة:
أكتب تحت تأثير حالتين: أولهما حين تكون الحرارة الشعورية عالية جدا،ً والثانية عندما أدخل في سرداب مظلم نتيجة نقص المعرفة أو قلة الوعي بالعوالم الداخلية التي تكون دافعاً مستمراً لاكتشاف الذات ووصلها بالعالم الخارجي لخلق توازن يساعدنا على المضي قدماً، ربما بعبث أقل، فتأتي القصيدة على شكل فتح مبين.
ولا أرى حالة زمنية بعينها تتجلى فيها ملامح القصيدة، القصيدة ضيفة تفتقر إلى قواعد التهذيب، هي تستأذن منك لكنها تلتهم كل حواسك دفعة واحدة وقد تأتيك في الحلم أيضاً .
أما بالنسبة للمكان فقد أكتب في السيارة التي تقلني إلى مكان عملي، وأحياناً خلال تناولي لوجبة طعام وتارة في حفلة أدعى لحضورها، وأفضل مكان بالنسبة لي /سريري/، ربما لأن الانفلات من تقييد الجسد على كرسي وطاولة أو مكتب عمل، يشكل عاملاً مهماً لعفوية القصيدة وصدقها وخروجها بسلاسة دون المد والجزر الذي تخضع له عند عملية التشذيب، في الكتابة ثمة أماكن تولد من الذاكرة أو حتى تلتصق بها جراء حرب قريبة، فتكونها وتكونك في النص وتمتد من خلالها إلى الحيوات الإنسانية جميعها لتعيد خلقها بعد تشرّب تفاصيلها وتحولاتها.
وتؤكد ‘‘أريج’’ أنه ليس هناك خط قياس واضح لظهور تأثير الزمان والمكان في القصيدة إنما يتضح ذلك غالباً بالكلمات وما تخفيه من دلالات رمزية ومواقف تحدد ملامح هذا الحضور.
أما الكاتب اليمني ‘‘محمد عبدالله’’ يرى أن القصيدة تأتي دون استئذان، ولا يوجد زمان محدد يفاجئه بحضوره ويقول:
أكثر وقت يستهويني في الكتابة هو السادسة صباحاً لكنني لا أنجح دائما في هذا الأمر، وربما يكون هذا الوقت فصلا لاستحضار فكرة ما ثم إعادة خلقها ضمن قصيدة تتجهز للظهور في وقت آخر، لكن القصائد على اختلاف موعد ولادتها واختلاف زيها إلا أنها في كل مرة تحمل الوشم نفسه الذي على كتفها.
كذلك لا يوجد مكان محدد، فالبحر أحد الطقوس وكذلك المقهى وأحياناً غرفتي مع العلم أن أفضل نص كتبته كان في الحمام. وقد داهمتني القصيدة مرة في عزاء أحد أصدقائي، فبينما كان الناس يبكون من حولي كنت منشغلا بكتابة قصيدة حب. فمهما كان المكان جديداً على الكاتب فإن ذلك لا يلقي بظلاله على ملامح الأسلوب؛ لأن الفكرة الحرة والحقيقية لا يؤثر فيها الزمان والمكان ولا حتى نحن.
وقد تتغير صياغة ورؤية بعض الأشخاص إلى مضمون النص مع اختلاف المكان إلا أن هذا حدث ظاهري ومجرد قناع سيكون نزعه سهلاً لرؤية الوجه الحقيقي للقصيدة حين تكون في يد قارئ جيد ومتذوق.
وتؤكد الشاعرة المغربية ‘‘زكية المرموق’’ أن الكتابة فعل مداهمة تأتي لوحدها متى قررت وأين قررت، ويتجلى ذلك في حالات كثيرة كالحب والشوق والغضب، وتضيف قائلة:
أكتب في أي مكان في غرف الفنادق في محطات الانتظار في القطار، ولا أتذكر مرة ركبت القطار دون أن ألد قصيدة، وفي السوق أكتب؛ فمرة لم يكن معي قلم وكانت كلمة قالها بائع الشرارة لنص كتبته لاحقا.
أحب الكتابة في غرفتي قبل الفجر بين الثالثة والرابعة صباحاً لكن القصيدة ستخترقك أينما كنت.
فهي كما تصفها الشاعرة: فيض مشاعر وأحاسيس استفزتنا من قبل لذا لا تربطها بزمان أو مكان بل بحدث معين؛ لأنها رهينة سياق أو موقف أو كلمة. فحين نقرأ نصا لبريفر أو رامبو لن نقول: حدث ذلك في تاريخ محدد.
فيجب أن تكون القصيدة كونية تخرج عن الجغرافية والتاريخ، ومن الممكن وجود إيحاءات عن أشخاص أو أحداث تدل على الزمان والمكان في القصيدة.
ويرى الشاعر العراقي ‘‘وحيد أبو الجول’’ أن مفاتيح القصيدة مثل النسمة، وأن الفصول على اختلافها هي أسفار اللغة فليس هناك وقت أو مكان حين تطل القصيدة، ولكنها تحتاج إلى معالجة في مبناها وجسدها وروحها فلكل وقت بصمته في كيان القصيدة.
وفي السؤال عن المكان الذي يحب الكتابة فيه يجيب: أحب الكتابة في غرفتي بين أربعة جدران، ولم أكتب خارجها إلا مرة واحدة وكان ذلك في مقهى لكن الأفكار تسكن رأسي في كل الأماكن، وإن موسيقى القصيدة تلازم الظل أينما كنت والوجع هو نافذتها الوحيدة.
ويؤكد ‘‘أبو الجول’’ أن المكان هو مساحة القصيدة والزمن سفرها وبكليهما يكون النص، وأن القصيدة الحقيقية هي التي تكون وليدة اللحظة والزمن ملامح الصورة فيها، وبإمكان القارئ المتعمق رصد ملامح الزمان والمكان في القصيدة حسب تلقيه لأدواتها التي يأتي بعضها عفوياً يخرج من ذات الشاعر من الوعي الآخر من منطقة روحية أعمق من اللاشعور متصلة بكنه الأشياء، وهنا يكون الشاعر متجردا من الزمن الحسي والمكان المحسوس.
ويوضح الشاعر أن ثمة حياة مختلفة تتشكل داخل القصيدة يعتمد نضجها على خيال الشاعر وأدواته، وأن باستطاعة الشاعر خلق أزمنة وأمكنة جديدة في حال تمكنه من الصورة الشعرية وبنائها.
بينما تجد الشاعرة البحرينية ‘‘جنان العود’’ أن القصيدة لا تأتي من تلقاء نفسها ولا تلحق بالشاعر ولا تمر أمام عينيه إذا ما جلس أمام البحر أو تأمل مطولاً في السماء، فتلك عوامل محفزة فقط ولابد من تجاوز الفكرة الكلاسيكية حول كتابة القصيدة التي تعد مشروعاً متكاملاً ويحتاج تخصيص وقت كبير في البحث والقراءة المتنوعة في شتى الحقول والاشتغال الحقيقي لبناء نص ساحر ومتجدد في كل مرة حتى يستحق القول عنه بأنه: قصيدة.
وتكشف الكاتبة عن زمان ومكان للكتابة فتقول: قد أكتب في أي وقت وأي مكان، لكني أميل غالباً للكتابة في الصباح الباكر حيث الموعد مع اليقظة والضوء الجديد.
ولا أظن أن لوقت الكتابة ذلك التأثير في ملامح النص إذا ما توافر الهدوء وحضر الوعي الكامل للكتابة، فلابد من خلق روتين يومي وتخصيص جزء في كل يوم للكتابة وهذا تحد إلى جانب متطلبات الحياة الكثيرة. وصادف أن خالفت القصيدة موعدها فحضرت مرة خلال إعطائي محاضرة حيث أردت وبشدة أن أكتب قصيدة، فهممت بإعطاء الطلبة نشاطاً صفّيّا وتظاهرت بالقراءة في كتاب المادة لكنني كنت قد خبأت ورقة داخل الكتاب، وشرعت في كتابة نص لذيذ عن أول الحب.
فالمكان كما تراه الشاعرة هو موطن القصيدة الأهم هو الصور والضوء والظلال هو المسرح الذي يغذي القصيدة ويمدها بالمعنى، ونحن شخوص في هذا المسرح الكبير (المكان) نؤثر فيه ونتأثر به، والقصيدة نتاج أدبي ساحر لما تحتمله النفس وتخبئه الذاكرة وما تبصره العين من مشاهد وصور لانهائية.
وترى الشاعرة البحرينية أن ظهور بصمات الزمان والمكان في النص يكون عبر تبيان الكثير من الأحداث التي تلم بكيان الشاعر، وتتشكل في نفسه منذ الطفولة فتظهر في البيت والتفاصيل العمرانية والطرقات والأزقة والشوارع التي شهدت فرحا ما أو حزنا أو حنينا لم يكتمل. فالمكان في القصيدة هو الأحاسيس المنبثقة التي تخرج من وعن هذا المكان، وتؤكد على أن من أهم وظائف الشعر وأعظم صفاته وتجلياته هو تشكيل زمان ومكان جديدين، فالشاعر هو الكائن الوحيد الذي يرحل لكل مكان بينما يجلس على أريكته ويدور قلمه على الورق الأبيض فيرى ما يرى من حلم في الحلم دون أن يعول على أزرار التكنولوجيا، ولا سبيل لذلك إلا بالاشتغال الجاد والإيمان المطلق بالقصيدة.
ويشرح الشاعر السوري ‘‘وفائي ليلى’’ وجهة نظره في زمان ومكان القصيدة بأن هناك حدث ما يمكن أن يستثير الإحساس ويدفع الشاعر للكتابة، كذلك فإن مزاج الشاعر عالم يختلف عن ذاك الذي يحدث في الخارج مما يحرره من الراهن واللحظي المباشر فلا وجود لزمن محدد أو طقس يؤذن بولادة القصيدة ويردف قائلاً:
لطالما يضحكني أن أحدهم كان يرتدي ملابسه ويشرب قهوته على مكتبه الأنيق ويكتب القصيدة مع أنغام الموسيقى المرافقة حينها ينتابني شعور بالغثيان والدهشة إزاء هذا الترف والافتعال للحدث.
فالشعر يهجم عليك ويغمرك مثل موج مباغت، بل ربما يبتلعك في حين تنتظر شيئاً آخر تماما، وإن كل الطقوس المرسومة بهذه الدقة هي شكل كاريكاتوري ومتصلب لهذا الفعل البريء والعفوي غير المنتظر.
وفي سؤال عن كيفية تشكل ملامح القصيدة في غير وقتها المعتاد يقول: إن هذا له علاقة بعمل الشاعر الصامت طوال الوقت أي تأمله في الأشياء بلا انقطاع، وهناك شاعرة لم أعد أذكر اسمها تقول: (إن الشاعر يجلس ساعات وساعات وهو يحملق في السقف والفراغ وتنصح الآخرين ألا يقاطعوه فهو يعمل).
فالشاعر يكتب تمارين لنص أخير قد لا يحدث، ولكنه يدأب على الاقتراب منه وعلى رصد ما يشعر به، وقد ينجو بعدها بنص جيد.
وعن تأثير المكان في النص يؤكد ‘‘وفائي ليلى’’ أن ذلك التأثير قائم ولكن الذاكرة تلح على التذكر واسترجاع ما فات، فتقوم غالباً بحذف المكان واستبداله، فعملية التذكر هي نسف للمكان الراهن الذي قد يكون محرضا للمكان الماضي ويتابع قائلاً:
يحدث أن تداهمنا القصائد في أماكن غير متوقعة ولا محضرة لذلك الفعل، أما بالنسبة لي أفضل أريكتي والاسترخاء الطويل ومتابعة الأشياء التي تتدفق من حولي، ويحدث أيضاً أن تكتب نصك خلال مشاهدة فيلم أو حين تستقل حافلتك أو في أي مكان متجهم ورسمي لا يسمح بهذه الخفة -أقصد فعل الكتابة- حيث تقوم القصيدة بتجاهله والسخرية منه إذ أن القصيدة أنانية لا تعترف إلا بنفسها وبالمكان والزمان الذي تختاره، فعلى الشاعر أن يكون القابلة التي تهرع للولادة والتي تملك الحلول دائما لهكذا مخاض مفاجئ.
أما المكان المفضل للكاتب فهو كما يصفه مكان غير متوقع، ولا رتيب ويحب أن يراقب كل ما يحدث، ويدفعه الفضول ليندس بين الجموع ويضيف:
أنا ألتقط الصور بذاكرتي للناس والأماكن وأثر الكائن على الجدران وفي الأماكن المعزولة والشواطئ المهجورة والظلال والشوارع الخلفية.
كل شيء يلهمني، إنه عالم يحفل بالمعنى والرموز، وما علي سوى أن أحاول ترتيب الصور وخلق المعنى.
وثمة أماكن خلاقة وغير متوقعة، وليس بالضرورة أن تكون رائعة: مكب نفايات أو بيوت مهجورة أو محلات لبيع الأدوات المستعملة أو جدران المدن التي تحتشد برائحة النشادر وكتابات الحب ومواعيده والشتائم وكل هذيانات الكائن وصور الحرب والمجازر وبرامج عروض الأزياء وأفلام السينما. وإن الأحلام مكان هام جداً أيضاً، وهو مواز ملهم وغريب وغير متوقع مع تهويمات الجنس التي ترسم سيناريوهات لا تنتهي، ومحاولات الإنسان المستميتة لخلق أكاذيب ترمم وجوده وتصديقها كذلك.
ويمكن أن تلمح ظهور الزمان والمكان في النص بشكل غير مباشر ولا محدد، فالأماكن تتغير ويبقى طيفها والزمان نهر لا يتوقف، فأنا أنظر إلى نصوصي التي عبرت بعد أن محي منها الكثير من رائحة وطعوم اللحظة وصارت شيئا آخر تماما، وهنا أختبر قيمتها من جديد إنها تحيلني إلى مكان وزمان وكائن آخر قد كنته في لحظة ما.
فحين نكتب نتذكر، فنحن في مكان وزمان متقدمين عن ذاك الذي نشغله ونحياه.
لقد اختفى ما قلناه للتو، فالكتابة تلتقط لحظة الذوبان تلك ولذعة الحسرة ودهشة الزوال.
لكن الشاعرة التونسية ‘‘سماح البوسيفي’’ ترى أن القصيدة حمل متأخر؛ لأن الوقت الذي تحدده للكتابة لا يستجيب للوقت كفرض زمني وأنها دائما ما تقع في لحظة الكتابة وتتورط فيها وتتشكل وفق تلك اللحظة شاعرة وهذا الحمل المتأخر هو زمن الاستيقاظ من الصمت إلى الكلام.
وتصف كتابة القصيدة بالخلق وكل اختلاق للكلام خارج زمن الخلق هو وقت رتيب فالزمن تتشكل فيه القصيدة وتنمو لتعيش هو زمن مكتمل وكل قصيدة كتبت في زمنها هي ما يحصل بالضبط بين أم وجنينها وإن زمن كتابة القصيدة في منطق الشعر زمن شيخوخة الفكرة أي أن هناك وقت ناضج تتطلبه كل القصيدة ومن هنا تعد الشاعرة القصيدة جنينا والكتابة بذرة شك أو حدس أو صرخة يسمعها القارئ والشاعر حال اكتمال فعل الكتابة.
وتتابع حديثها عن هيئة القصيدة حين قدومها فتقول:
أنا أعيش مع الشعر، وكل قصيدة أكتبها وأخرجها للنشر هي مسودات لقصائد ماتت في الكتابة وإن فكرة القصيدة تأتيني من أشياء تخترقني فكل قصيدة كانت حياة بأكملها وكل حدث شعري بالنسبة لي هو تفوق للحظة حب أو ضعف أو جمال وكل قصيدة هي زمن معيشي لا يرتبط بلحظة آنية بل هو زمن من الأشياء العالقة ولحظة فذة نجد فيها الشعر خلاصة لكل ما نعيشه ونفكر فيه فتأتيني القصيدة بكرا ليشذبها الوقت وإن كل قراءة في القصيدة إعادة كتابة لها وهو ما أشرت إليه في تجربتي الأولى (المخطوط) إذ أن الكتابة فعل متجدد وكل قصيدة تكتمل تموت.
وتذكر ‘‘البوسيفي’’ أنها تعيش حالة نزوح دائم نحو الكتابة وطوال الوقت توجد أشياء تقودك للكتابة وأنه لم يعد هناك وقت محدد للقصيدة فكل شاعر يرتبط بأدواته بروائحه وبمسوداته أما أفضل أوقات الكتابة عندها فهي أشد لحظات الضعف حيث تعد حالات النقصان هي حالات الاكتمال في الشعر وكل كلام نقوله هو حالة فريدة للالتقاء مع العالم وأشيائه فالشعر كما تراه هو علاقتها مع الأشياء.
وإن لحظات الافتتان هي أشد اللحظات مباغتة في الكتابة والتي تسميها الشاعرة حالات الدخول شعورياً في الأشياء وهناك لحظات يصعب فيها الفصل بين الزمان والمكان أما الزمن الأخطر فهو حين تأتي القصيدة في كل الحالات وأغرب الأزمنة وكأن الشاعر هنا يملك عالماً ثانياً ويعيش زمانين ومكانين وحالتين وأقصى ما يمكنه فعله أن ينتصر للقصيدة ويعيش داخل العالم وخارجه متقمصا بشجاعة دور القارئ والشاعر معا.
أما عن حضور المكان في النص تقول: إن الشاعر الذي لا يرتبط بأماكنه وطقوسه لا يكتب شيئاً يستحق القراءة فالقصيدة آخر الأوطان التي لا تتغير ومكان الشاعر المفضل وإن فكرة المساحة في القصيدة هي ارتباط الشاعر الحميمي مع عالمه. وأرى أن المكان الرمزي أشد تأثيرا من المكان الواقعي فكل كاتب لا يرتبط وجدانيا بخصوصيات منها: زمن يبحث فيه ومكان يشتم فيه رائحة تشبه رائحته لن يكون كاتبا أو شاعراً بل سيكون مجرد باحث عن أرض فمعظم قصائدي التي كتبتها جاءتني في أماكن عابرة لم أكتب فيها لأن القصيدة لم تعد تكتب في غرفتها بل خرجت للشوارع معنا وصار الشعر رحالة هو الآخر وبهذا أنتمي دائما للأماكن التي أشعر فيها بالطمأنينة فهناك نوع من النوستالجيا مع الأزمنة والأمكنة المعادة في أشكال روائح وتفاصيل. ولابد من اكتشاف الألفة مع الأشياء التي تحيط بنا فالعالم مشهد واحد متكرر زمانيا ومكانيا وحتى الشخوص لها دائماً مسودات تشبهها فنحن نعيد اكتشاف العالم فقط ورؤيته والتحدث عنه.
وتبين الشاعرة أن علاقتها بالقصيدة ليست علاقة بالمكان فنحن من نخلق علاقات دافئة مع الأشياء لأن القصائد لا تكتب في الفصول الباردة وتعني بالبرد الأشياء التي لا تعنينا والشعر نوع من أنواع الاكتمال المبهر مع الأشكال الصامتة والمساحات المختلفة إنه اللغة الأقرب إلى الصمت هو إعادة كتابة صمتنا.
أما الشاعر فهو كائن رحالة بين الأزمنة والأمكنة والشخوص والقصيدة سفره نحو عوالمه بل إن كل كتابة خلاقة هي إعادة تشكيل ونحت في عوالم جديدة ليست محاولة لاستنساخ العالم بل رؤية فردية للشيء الذي يراه الجميع ولا يثير في نفوسهم شيئاً.
فالشاعر يخلق تلك الموازنة بين الرؤية والرؤيا ليجعل العالم الحقيقي أشد مرئية بأصغر تفاصيله وكائناته الطفيلية.
وتعبر الشاعرة اللبنانية ‘‘حنين الصايغ’’ عن استغرابها من وجود توقيت خاص للكتابة حيث تقول:
لا أملك من ترف الكتابة ما يسمح لي باختيار الوقت الذي يستهويني لأكتب فكتابة الشعر تحديداً لا يمكن أن يكون مخططا لها لأن هذا يتنافى مع طبيعة الشعر الروحانية الماورائية التي لا تخضع لعقارب الساعة وبرامجنا المكتظة.
وأكثر ما يصدم الشاعرة هو الإعداد لكتابة القصيدة فتوضح ذلك: إن ما يصدمني حقاً هو الطقوس الرائجة هذه الأيام للكتابة فتجد الشعراء يحضرون القهوة والسجائر وأحياناً النبيذ ويتعاملون مع كتابة الشعر وكأنها جلسة تحضير أرواح والشاعر الحقيقي يعرف كم يبدو هذا سخيفا وإن الذاهبين إلى الشعر بهذه الطريقة السطحية أستبعد أن يكونوا شعراء بل إنهم فقط يرغبون بذلك.
وهناك رأي آخر للشاعرة عن المكان وحضوره في النص حيث ترى أنه لو نظرنا إلى أن الشاعر يولد شاعراً فعلينا أن نعترف أن دور الملهم أو الملهمة أمر مبالغ فيه سواء كان الإلهام مكانا أو حدثاً أو شخصاً فهناك كتاب وشعراء عاشوا طيلة حياتهم في قرى ولم يغادروا أوطانهم لكنهم أبدعوا.
ومن هنا تظن ‘‘حنين الصايغ’’ أن التجربة بالعنوان العريض هي ملهمة الشاعر وليس مكانا محددا أو حدثا معيناً والشاعر هو من يحس بكل شيء وينصت إلى دواخله كثيراً يعني أن قدرته على الشعور العالي وترجمة هذا الشعور كامنة فيه إن وجد الملهم أم لم يوجد وتضيف قائلة:
غالباً ما تسقط علي القصائد من دون سابق إنذار وأنا أقود السيارة وأنا أغسل الصحون فأخلع القفازات وأجري لأتناول القلم وقصاصة ورق وبعض القصائد توقظني من النوم وكأن صوتاً داخل رأسي يكلمني فأستفيق وأكتب نصف واعية لأفاجأ في الصباح بقصائد كاملة لا يشوبها إلا بعض الأخطاء الإملائية وقد سافرت في مرات كثيرة وسكبت روحي في بقاع مختلفة من الأرض ولم أكتب عنها وفيها شيئاً.
فالكتابة ليس لها معيار فهي شأن داخلي بامتياز لا يخضع للمكان والزمان هكذا يقول من يأتي الشعر إليهم أما الذاهبون إلى الشعر فأترك لهم سرد السبل.
أما الشاعرة السورية ‘‘أنعام يونس’’ فترى أن الكتابة حالة غير مألوفة خارجة عن حدود الزمان والمكان، فالقصائد تأتي بشكل مفاجئ ومتدفق وتقول:
أدون فكراً متقطعة لأقوم بإكمالها لاحقاً، ومشكلتي أن علاقتي بالتكنولوجيا أكثر حميمية من علاقتي بالورق وأكتب حين أعرض لموقف أو شعور جميل أو اشتياق لمكان أو حالة معينة ولعل المساء هو الوقت الذي أفضله حيث الهدوء المطلق وأحياناً أكتب خارج غرفتي وبعيدا عن مكتبتي ويكون ذلك في مقهى ما.
وعن رؤيتها لتأثير المكان في ملامح النص ترى الشاعرة أن المكان المحصور أفضل للكتابة؛ لأن المكان المفتوح للفكر المبعثرة التي أرتبها فيما بعد وللأماكن تأثيرها على الذائقة بشكل عام. وتقول أنعام يونس:
إن حضور القصيدة في مكان غير متوقع ربما يجعل النص أفضل، فالكتابة تحلق أمام التفاصيل الغائبة، والقلق يخرج زبدة النص وطالما رافقتنا التكنولوجيا ستكون الكتابة متاحة في جميع الأمكنة.
وإن الشاعر يستطيع السفر إلى أمكنة جديدة وفي أزمنة مختلفة، لكنه يحتاج إلى خيال باهر أو أحداث غير اعتيادية، ويتجسد ذلك من خلال القراءة ومواكبة النصوص الحديثة.
انتلجنسيا