استقالة عنان والمأزق الأممي
عبدالله السويجي
“لم أتلق كل الدعم الذي تتطلبه المهمة، هناك انقسامات داخل المجتمع الدولي . كل ذلك أدى إلى تعقيد واجباتي” . بهذه الكلمات أوجز كوفي عنان المبعوث الخاص للأمم المتحدة والجامعة العربية إلى سورية، أسباب استقالته من مهمته التي بدأت في 24 فبراير/شباط الماضي وتنتهي في 31 أغسطس/آب الجاري، والأسباب التي أوردتها مراكز صنع القرار في العواصم العالمية لم تكن بعيدة عن أسباب عنان، فقد حمّل البيت الأبيض مسؤولية الاستقالة للدور الروسي والصيني وموقفهما من الأزمة، واستخدامهما حق النقض (الفيتو) في وجه مشاريع قرارات مجلس الأمن، بينما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه يأسف لاستقالة عنان، واصفاً إياه بأنه “رجل محترم جداً ودبلوماسي ممتاز ورجل متواضع للغاية”، أما رئيسة الاتحاد الأوروبي “آشتون” فقد رأت أن استقالة عنان تعود إلى فشل مجلس الأمن .
لقد بذل كوفي عنان أقصى جهده لتنفيذ بنود خطته، إلا أن الواقع على الأرض محلياً وإقليمياً وعالمياً كان ولايزال يتناقض مع روح الخطة، فهي تبدو مثالية في محاولتها لجمع الأطراف المتحاربة، وليست (المختلفة)، والانتقال السلمي للسلطة وتشكيل حكومة تتمثل فيها جميع أطياف المجتمع السوري . ففي الوقت الذي كان يجتمع فيه عنان في جنيف مع أصدقاء سوريا، كانت الأصوات تتعالى لتسليح المعارضة ورفض ما تمخض عنه الاجتماع، بل لقد وُجهت اتهامات إلى عنان بأنه يقف إلى جانب النظام السوري، فأحرقت صوره وحصل على نصيبه من الانتقادات والشتائم، كما كانت المواقف الدولية منقسمة أيضاً واتهمته بعض الأطراف بالتقصير، ولهذا، فإن مهمة كوفي عنان انتهت عملياً قبل إعلانه نيته بعدم تمديد مهمته التي تنتهي في 31 أغسطس/آب الحالي . انتهت مهمته في الوقت الذي رفضت فيه أطراف محلية سورية معارضة ودول أخرى مواصلة مساعيه السلمية، لأن المواجهة أخذت طابعاً عسكرياً قبل تكليف كوفي عنان في فبراير الماضي، وكان قد مر على الحراك السوري والمواجهات والمعارك أكثر من عام،
ما أورده كوفي عنان بشكل موجز يفتح النافذة الصغيرة على واقع مرير وليس على واقع افتراضي، فقد ذكر الانقسامات الدولية، كما ذكر عدم تقديم الدعم الكافي لمهمته، فالانقسامات الدولية واضحة للعيان، أما الدعم فمسألة مربكة وأحياناً تكون غير أخلاقية، إذ كيف يكلف مجلس الأمن والجامعة العربية شخصاً تنفيذ مهمة محددة ببنود واضحة، ويعمل بعض أعضاء المجلس ضد نجاح هذه المهمة؟ فهذا يعني أن خطة عنان كانت لذرّ الرماد في العيون فقط، وللتدليل على أن مجلس الأمن والجامعة العربية حاولا حل المسألة بشكل سلمي، واجتهدت المنظمتان وفشلتا .
لقد بات من المؤكد أن الحالة السورية ليست حالة صراع بين معارضة (ثورية) وحكومة (مستبدة)، فالمعارضة تتكون من فصائل عديدة لا يربط بينها أحياناً أي رابط . فعلى الأرض، ومن الناحية العسكرية، هناك كتائب كثيرة، بعضها معروف وبعضها لم تظهره وسائل الإعلام بعد . بعضها إسلامي معتدل والآخر متطرف وثالث سلفي، وهناك مجموعات ديمقراطية وأخرى علمانية وثالثة اشتراكية ورابعة ليبرالية، كما توجد مجموعات عربية تعمل في مناطق منفصلة، إضافة إلى وجود الجيش السوري الحر الذي لم ينج من الانقسام وتبادل الاتهامات بين قيادته داخل سوريا وقيادته خارجها . أما المعارضة في الخارج فهي منقسمة أيضاً على ذاتها، ولايزال البعض منها يطالب بمعارضة سلمية كأنه يعيش في كوكب آخر . أما الحكومة السورية أو النظام السوري، فبعض قراراته لا يستطيع التحكم بها، فهناك لاعبون غيره مثل روسيا والصين وإيران، وكل طرف له أجندة وسياسة ومصالح سياسية واقتصادية واستراتيجية، آنية وبعيدة المدى، فروسيا على سبيل المثال، لن تتنازل عن قاعدتها البحرية في طرطوس، أو عن استثماراتها في مجال الطاقة والتسليح التي يقدرها البعض ب 16 مليار دولار، ويبدو أنها لن تكرر تجربتها في ليبيا، حيث خسرت استثمارات ب4 مليارات دولار، وهناك أيضاً حزب الله اللبناني الذي بات موقفه واضحاً للغاية، وقد تكرر أكثر من مرة وهو منحاز بالكامل إلى جانب النظام .
لقد أدرك كوفي عنان كل هذا، ويدركه بالتأكيد قبلنا، بصفته رجل سلام وله تاريخ ناصع في محاولاته لحماية المدنيين في أكثر من مكان في العالم، وقد ركزت خطته على حمايتهم في سوريا، وإطلاق سراح المعتقلين وتسهيل دخول منظمات الإغاثة الدولية، والجلوس إلى طاولة الحوار .
كان كوفي عنان يدرك أنه يدخل ساحة ملتهبة داخلياً ودولياً، وأنه يمشي في حقل ألغام، لكنه رأى أن من واجبه المحاولة في ظل انقسام الدول الكبرى وتباين مواقفها، ويدرك في هذا السياق، أن منظمة الأمم المتحدة ذاتها في حاجة إلى إصلاح، ولهذا حاول في العام 1997 القيام بإصلاحات إدارية وتنفيذية، ونجح نسبياً في تطوير آليات تنفيذ بعض القرارات، أما بالنسبة إلى سوريا فالأمر ليس إدارياً، وإنما صراع مصالح دولية، ولهذا، وجد نفسه أمام حائط مسدود وأبواب مقفلة، مع وجود جهات تقوّض مساعيه قبل الشروع في تنفيذها .
القضية السورية في النهاية، خرجت من أيدي السوريين، ولم يعد بالإمكان حل النزاع داخلياً وبشكل مستقل، وإن ما يخشاه المفكرون الاستراتيجيون أن يخرج الواقع السوري عن السيطرة، ليمتد إلى دول الجوار، فبعض الشرر انتقل إلى لبنان، وكل يوم تقريباً نشهد مناوشات في طرابلس بين مؤيدين للنظام السوري ومعارضين له، وامتدت الاشتباكات إلى الحدود الأردنية أيضاً، بل إن الحكومة الأردنية أعلنت عن القبض على مجموعة مسلحة غرب عمان، فضلاً عن التوتر الشديد على الحدود السورية التركية بعد إسقاط طائرة مقاتلة تركية بنيران سوريّة، وبعد أن قام النظام السوري بإطلاق يد الأكراد السوريين في المحافظات المحاذية للحدود التركية، وقد اعتبرت تركيا هذا السلوك تهديداً لأمنها، فقامت بحشد القوات وبطاريات الصواريخ والدبابات على حدودها مع سوريا، ولن نستغرب إذا ما استيقظنا ذات صباح، ووجدنا الجيش التركي يقوم بعمليات داخل الأراضي السورية، كما هدد أردوغان، حماية للأمن الوطني التركي، وكما يفعل باستمرار داخل الأراضي العراقية بحجة مطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني .
عنان استقال أو فشل، كلها تقود إلى مشهد واحد هو: إن سوريا تحولت إلى مستنقع أو ساحة تتحارب فيها قوى محلية وإقليمية وعالمية، والحل هذه المرة ليس في جلوس النظام السوري والمعارضة إلى طاولة الحوار، وإنما جلوس القوى الكبرى والقوى الإقليمية إلى طاولة الحوار، وبوضوح أكثر، فإن جلوس الأطراف الإقليمية إلى طاولة الحوار، قد يكون مطلباً يكتسب أولوية، لإيقاف حمام الدم في سوريا، أما إذا بقي العالم يتفرج على المشهد السوري المميت، فلا أحد يعلم ما ستقود إليه الأيام المقبلة، وهذا ما يتخوف منه كوفي عنان، ولهذا قدم استقالته التي قد تكون جرس إنذار للمجتمع الدولي، أكثر منها استقالة فردية .
الاتحاد