اسم واحد لأكثر من موت/ بشرى البشوات
ليس الموت وحده كل ثمار الحرب، وليس الخراب والدمار والإعاقة النفسية والجسدية والتغييب القسري وكل ما من شأنه أن يجافي أبسط حقوق بني البشر في الحياة والكرامة، ليس ذاك وحده آخر نسلها، ولن يكون حضور الحرب مما هو آني مرتبطا بفيزيائها، أو بزمنها المنقضي حين تنقضي هي ويعود كل شيء إلى سالف عهده، من أمان وطمأنينة ورغد العيش. ليت الأمر يجري على هذا النحو، لقلنا حين ذاك: لله درّ الحرب انتهت مثلما بدأت، دونما ارتداد أو مفاعيل أو آثار محفورة في الزمن ككيمياء خبيئة، لكن الأمر ليس كذلك البتة.
إن الحرب سليلة الحرب، سلالة لم تنته منذ أن كان آدم، تجد استمرارها في ما تخلّف من ظروف وآثار، إنها تستودع غراسها في التراب أو تحت الرماد، مأساة دائرية منذ أن كان الإنسان “صائدا” بين أنواع أخرى.
لم تغير الحرب في حضورها، سوى في شكل هذا الحضور الذي يأتي ناعما “أنيقا” أحيانا و”جلفا، قبيحا، فاجرا” أحيانا أخرى، لم يتغير إلا المعطى الكمي فيسقط مئات أو آلاف بدلا من مئات الآلاف أو حتى الملايين حين تحضر ذلك الحضور الفج والنزق والكافر بكل معنى للحياة.
كل المنجز الحضاري للبشرية وتحولاتها صوب المدنية والعقلانية والقانون والدولة والديمقراطية وحقوق الإنسان، كل الثورات التي أنجزها الإنسان من الكتابة إلى الزراعة إلى الصناعة إلى التقانة الضاربة والميديا الطاغية لم تنجح في “طرد الحرب خارج المدينة” بعبارة إدغار موران. لابل موّهت الحرب وأخذت تستثمر في شكلها الأنيق.
كل هذا المنجز وما زالت تحصد أرواحا وتزرع بذورا لموت آت.
ما فعلته الحرب في سورية ليس فقط أنها قتلت وشرّدت وغيبت ملايين، أو دمرت ثلثي بنيانها التحتي، أو أعادت اقتصادها إلى حضيض البؤس، لا، إن مافعلته أكثر من ذلك، لقد بثت كيمياء لحرب وربما أكثر في أحشاء الزمن السوري الآتي.
ليست الإيديولوجية الدينية أو المذهبية أو الطائفية وحدها من يؤسس الحرب، على ما تطرح الرواية التفسيرية الراكنة إلى تفسير مسطح، لكنها بالتأكيد إحدى القوائم التي تنهض عليها، وبالتأكيد أيضا أن هذه الإيديولوجية ستتغذى من الحرب طويلا، فهما متلازمتان، تتقدمان معا، وتتراجعان معا، في علاقة تبادلية تجري في ما هو تحت.
لكن الحرب تقتات أيضا وعلى نحو جلي، من القاع الاجتماعي الذي يتعرض لمختلف أشكال الانتهاك، من الفقر إلى الجهل إلى البطالة وانعدام الأفق، وصولا إلى سياسة تدير هذا القاع وتعيد نسخ أزماته وتفاقمها.
ليس ثمة مستثمر في الحرب أكثر من الحرب ذاتها، كأفعى تزرع بيوضها على شكل موت كامن في الفضاء، لتأتي إيديولوجيا العنف المذهبي أو الطائفي وتعيد تفخيخ البشر بما تخلفه الحرب من بيئات مشبعة بالعنف ومستبطنة لسائر أشكال الموت الخبيء.
هل يستطيع أحد أن يتنبأ بمستقبل أكثر من مليوني طفل حرمتهم الحرب من التعليم، فضلا عن التشريد والتجويع و….، كيف سيكون حال هؤلاء؟ لابد أنهم سيمثلون بشكل مفترض خزانا بشريا هائلا للعنف فيما لو توفر المستثمر، وأعتقد جازما بأنه متوافر بكثرة، أظنهم سيكونون صيدا سهلا لكل منظمات العنف والإرهاب التي تجيد تدوير برامجها في بيئات يسكنها الجوع والحرمان من التعليم ومن أي بارقة أمل في غد جميل، أليس ذلك من الأسماء الأخرى للموت.
لابدّ من قول شيء آخر: في سياق ما يتعرض له مكون بعينه من المجتمع السوري من ظلم هائل وموت هائل على يد نظام البراميل والكيماوي وصمت العالم عمّا يجري له، أليس ذلك مدعاة لاستدعاء إيديولوجيا الظلم أو المظلومية لدى هذا المكون، وبالتالي استدعاء لفضاءات واسعة من العنف الآتي.
لا بدّ لنا إذ نتوجه للمستقبل أن نعي كم أن الحرب هي اسم لأكثر من موت، لأنها تنصب أكثر من فخ، كم يتوجب علينا نزع هذه الفخاخ بحرب نهائية، دعونا نقول بكثير من التفاؤل إنها حرب أخيرة على الحرب.
(سورية)
العربي الجديد