اصطياد برق الرأس 3
دارا عبدالله
إلى رائد وحش
يوم تكوَّرتَ كنقطةٍ ورفعت يدَيك وقلتَ الجملة التي دمغتْ ذاكرتي:
«اليوميَّات هي كواليس النص»
(إلحاد)
تديُّنُ السوريين ولجوؤهم الهاربُ إلى الله (يا الله ما لنا غيرك يا الله) ليسَ تطرُّفاً، بل تحميلٌ للإلهِ وزْرَ الفظاعات اليوميَّة المُرتكبة، وحرقهُ بعذاباتِ الخَليقة، وتذكيره بمسؤوليات الأُلوهيَّة. التديُّن هنا إلحادٌ.
(من عدم الحرية إلى حرية العدم)
مفتاحٌ صغيرٌ فتحَ باب السجن الكبير، المسافة الزمنيَّة بين مَهجع السجناء وحيّ القصور، كالغَبَش الفاصل بين اليقظة والنوم، ثوانٍ قليلةٌ تفصل مكاناً يموت الناس فيه ببطءٍ وصمت، عن مكانٍ يضجُّ بالحياة الفارهة. السيارات مصطفَّة على حوافّ الطريق مثل سلاحفَ نائمة. نظرتُ إلى السماء، شعرت بدوارٍ لاذع، أدهشني ارتفاعُ الأشياء عن الأرض. لا أبعاد في السجن. اكتشفتُ أثناء المشي أنَّ المسافة بين فخذيَّ قد اتَّسعت. سألتُ فتاةً مارقةً في الشارع عن الوقت، خافت وابتعدت كأنها رأت كائناً خرافياً، تفرَّستُ وجهي في مرآة سيَّارة واقفة، أخفْتُني، أشبه بعجوز يمشي جيئةً وذهاباً مُحتَضَراً تحت مصباحٍ يمعِنُ في التوهُّج، ارتدادٌ تامٌّ إلى حالة الهيولى الأولى، أنفاسي سريعة ومتقطّعة، صوتُ صرير عميق أسمعهُ من صدري، كالصوت الصادر من قطعة حديدٍ يحاول حدَّادٌ بعبثٍ أن يكْشُط الصدأ عنها، سيَّارات الأجرة ترفضُ الوقوف، بعد أكثر من نصف ساعة، وقفت إحداهنَّ، قلت للسائق أن يأخذني إلى ساحة الميسات، الدم المتخثِّر على ظهرِ يدي اليمنى مثل بحيرةٍ من صقيعٍ أحمر، سألني إن كنتُ في السجن، أجبته بـ نعم، مرَّت فترة صمتٍ طويلة، نظرتُ إلى ملامحه المتعبة، كانت الدمعة مُستقرَّة على خدّه الأيمن، مسارُ الدمعة على وجهه ترك انطباعاً في داخلي، كالأخدود الغائر الذي تتركه مياه النهر في صلب الأرض. إنها هزيمة.
على عكس الدخول، لا يخرجُ المرءُ من السجن دفعةً واحدة، الإفراج النهائي يُخِرج أقلَّ كميَّة منك. أوَّل ليلةٍ في البيت لم أتجرَّأ على التمدُّد الكامل على السرير، ولم أبقَ في التواليت أكثر من 30 ثانية (بقيت على هذه الحالة حتى ذهبتُ إلى بيروت)، ثلاثُ ساعات وأنا أشاهدُ مباريات كرة قدم خليجيَّة، في الساعة الرابعة صباحاً، كنتُ على وشك أن أجهش بالبكاء وأقول لهم أن يعيدوني إلى السجن، لم أعد أصلح سوى أن أكون سجيناً.
(المكانُ في السجن)
البلاطةُ هي وحدةٌ لقياسِ القِدَم في السجن، كلَّما كانَ لكَ بلاطاتٌ أكثر كنتَ أكثرَ عراقة، الأقدمُ هو الأكثرُ راحةً لأنه يملك مكاناً أوسع. الأكثر راحةً هو الأكثر تعاسة، البلاطةُ هي وحدةٌ لقياس الألم. المكانُ الوحيد الذي يقاس فيه عمقُ الزمان باتِّساع المكان هو السجن، أحد السجناء القدماء اعترف لي بأنه عندما يبني بيته سيجعل أرضيَّته قطعةً واحدةً متَّصلة، لن يسمح لتقاسيم البلاط أن تظهر، انتقاماً من ذاكرته.
(منفردة – مَهْجَع)
ليس المؤلمُ في المنفردةِ أنك لا ترى أحداً، بل: أنَّ أحداً لا يراك، هذا هو الفرقُ بين الوحدة والعزلة. أشدُّ ما يوجع في وحدة المنفردة أنها لا تفيد أحداً، الوحدةُ بحاجةٍ إلى شاهدٍ عليها. في المهجع الجماعي الأضعف منك يغارُ من قوَّتك، والأقوى منك يدوس عليكَ، والذي يساويك يتجنَّبُك.
(«جبهةُ النصرة»)
من يعتقلُ التاريخ ويحنِّطُ الزمان، أخطرُ ممَّن يعتقلُ الأشَخاص ويخنقُ المكان. فطرتنا الأصليَّة ضدّ أيديولوجيا «البعث»، لا تحاولوا أن تجعلوا هذه «الفطرة» أيديولوجيا. النظامُ منعنا من الكلام، لا ترغمونا عليه.
(محمد شيخو)
أصلُ إعجابنا بالموسيقار هو عجزُنا عن تقليده، حسدُنا منه، وكلَّما كان عجزُنا وحسدنا أكبرَ، كان إعجابنا أشدّ، محمد شيخو الفنان الكرديّ الفقير من الشمال المهمَّش، البؤسُ الكردي لا يخرجُ من الصوت، الصوت يخرج من البؤس الكرديّ، وكأنَّ هذا الضغط السياسي المهول ولَّد ردَّ فعلٍ ثقافياً حوَّله محمد شيخو إلى ألحانٍ داميةٍ، نغمات حارقة تخرج مباشرةً من الحنجرة إلى الوجدان، كيف لذلكِ الصوت العميق أن يثيرَ هذا الكمّ من الألم النفسي؟ أليسَ جمالُ هذا الصوت كافياً لتفعيلِ عُقدِ النقص وإثارة نخوة «الحماية» لدى المعارضة العربية؟ غناءُ العنصرِ مع آلةِ البزق دليلٌ دامغٌ على عُزلة الجماعة، تتذكَّر فوراً عند سماعهِ رائحة التراب المرشوش بالماء، والأطفال العراة في القرى المتناثرة، والوجوه الترابيَّة المجعَّدة، تتذكَّر فقط «رغبة الكرديّ في أن يبقى كردياً».
(ثقبٌ وصوت)
ثقبٌ ناضحٌ بالدم من رأسِ القتيل ويسقي شعرَه، نبعٌ تفجَّر بالماء وتكفَّل التراب بتحويله إلى عُشبٍ، صوتُ الضحيَّة قبلَ الموت، صريرٌ بابٍ مُخلَّع يقاوم رياحَ العاصفة. أنتَ قتيلٌ مُحتمَل.
(بيانات)
على التغيير أن يتجاوز الجهاز السياسي الحاكم إلى بنية اللغة، علينا أن نُخلِّص اللغة من التعابير العسكرية، أيّةُ لغةٍ طنانة و«جماهيريَّة» ستنتجُ نظاماً سلطوياً جديداً.
(تعاسةُ البشريّ)
قبلَ الخلْق: اللذَّة حرمَتْنا من الفردوس، بعدَ الخلق: الفردوس حرمنا من اللذَّة.
(ضعف القوة)
– القوَّة التي تدَّعيها ليست إلَّا ضُعفاً، هذه القوَّةُ ناجمةٌ عن زخمِ السقوط.
(متفرِّقات)
– خلف بطولة كلِّ «جيشٍ» ولو انتصرَ، هزيمةٌ.
– القتلُ يؤدّي إلى السلطة، والسلطة تؤدَّي إلى القتل.
– أبشع أنواع القتل عندما تضع عينكَ في عين الضحيّة، القاتلُ لا يشبه أحداً، دم الضحيَّة لا يُؤثِّر إلا في ضحيَّة مثلها.
– ضميرُ الشعب أوتارٌ حسَّاسة، تعزفُ عليها مجموعةٌ من كبار الكَذَبة.
– أكثرهم غروراً، من يتقزَّز من نفسه أمامَ الجميع.
– أحدهم حياته ترجمةٌ لموته، كيفَ يمكن أن يكونَ موتُهُ ترجمةً لحياته؟
– أنتَ بحاجةٍ إلى شجاعةٍ مضاعفةٍ حتى تعترفَ بأنك جبان.
– أحدُهم فقدَ عقله، والآخرُ فقدَ كلَّ شيء إلا عقله، مَن المجنون؟
– طهرانيَّة صاحب العفَّة لا تقلُّ بشاعةً عن انفلاتِ الغارق في اللذَّة، الأوَّل لم يقع في شرك الرغبة، الثاني لم يطحْهُ الندم، الرتابة مشتركة.
– كيف تتخلَّص من العادة؟ اكتشفْ أنها عادة.
– الطفل عديمُ الذكريات، أوَّل دلائل الشيخوخة هو التذكُّر. الشيخوخةُ هي انتقامُ الزمنِ من الطفولة.
– كلُّ فتاةٍ تحاول أن تبرهن الأمور وتبرمج الحقائق، تقتلُ شهوتك تجاهها، الجدال يخنقُ الخيال.
«الغاوون»، العدد 54، 1 شباط 2013