الأتراك والوصاية على سورية
عمر قدور *
لم يتردد رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قبل أسابيع قليلة في وصف الأزمة السورية بأنها قضية تركية داخلية، متذرعاً بالحدود الطويلة بين البلدين وبالقرابة بين الشعبين والتاريخ المشترك!. وعلى رغم استدراك هذا التصريح، وقد قرئ حينها بمثابة تحذير، بالزيارة التي قام بها أوغلو إلى دمشق، وما أشيع إثرها عن تراجع في الموقف التركي لمصلحة النظام، إلا أن الموقف التركي ظل غامضاً لجهة مَن ينتظر توجهاً نهائياً حاسماً. وقد يُرى في الظاهر أن السياسة التركية قد خيبت آمال الكثيرين، بدءاً بالنظام السوري الذي راهن على دعم غير مشروط من أردوغان مروراً بالإدارة الأميركية وانتهاء بالمتظاهرين السوريين الذين سبق لبعضهم أن رفع الأعلام التركية وصور أردوغان تعبيراً عن الامتنان.
القراءة المباشرة ربما لا تفي الموقف التركي حقه، فهو موقف منسجم ومتماسك أكثر مما توحي به التصريحات التي تختلف نبرتها بين الحين والآخر. في العمق الاستراتيجي ليس ثمة تناقض بين استضافة مؤتمر «للإخوان» السوريين قبل الانتفاضة، ثم استضافة مؤتمر أنطاليا وفي ما بعد مؤتمر إسطنبول للمعارضة السورية، وبين «التفهم» النسبي الذي تبديه القيادة التركية تجاه النظام. ذلك لا يعني أبداً أن الأتراك يلتزمون الحياد أو أنهم يحتفظون بمسافة واحدة مع أطراف الأزمة السورية، هم بالأحرى باتوا ضالعين بالملف السوري إلى حــد لا يــقدرون معه على التزام الحياد، فضلاً عن أن الحياد لا يلبي مصالحهم الإستراتيجية التي تتطلب في هذه المرحلة توازناً دقيقاً يقضي بالإمساك بكافة خيوط الملف ما أمكنهم ذلك.
تصريحات أردوغان خصوصاً تعيد إلى الأذهان المقولات التي عرفها اللبنانيون أثناء عهد الوصاية السورية، ومع أن هذا القياس قد يبدو مستبعداً الآن إلا أن الكثير من المؤشرات يشي برغبة القيادة التركية في لعب دور الشقيق الأكبر تجاه سورية. ضمن هذا التصور تأخذ التناقضات الظاهرية في الموقف التركي طريقها إلى الحل، فالأخ الأكبر يعدّ نفسه للعب دور الشرطي والقاضي معاً، هكذا يكون الحياد عسيراً وفي الوقت ذاته يكون الانحياز إلى طرف موقتاً وتكتيكياً، ولكي تسهل الوصاية من المستحسن أن تضعف الأطراف جميعاً ويصبح دور الوصي مطلباً لها. لا يسعى الأتراك إلى إقامة منطقة نفوذ في سورية على غرار النفوذ الإيراني في العراق، فحزب العدالة أقل أيديولوجية من الملالي وأكثر براغماتية، لذا يمكن فهم «الازدواجية» التركية في إطــار الحــنكة التي تبتغي كسباً سياسياً مضموناً.
أبرزت الانتفاضة الدورَ التركي في سورية لكنها لم تؤسس له، فالنظام كان سبّاقاً في طلب الود التركي تزامناً مع التفات الأتراك إلى الشرق، ومن الخطأ التركيز هنا على العلاقات الاقتصادية بين الــبلدين على رغـــم تصاعدها، لأن العامل الاقتصادي بالنسبة إلى النـــظام لم يكن يحتل الأولوية حينها. لقد توسّل النظام دور تركيا بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان والعزلة الدولية التي فُرضت عليه آنـــذاك، وعــلى وجه خاص العزلة العربية التي واجهها بعد اغتيال الحريري؛ وقتها قامت سياسة النظام الخارجية على كسب القوى الإقليمية العظمى، وباستثناء الحليف الإيراني كانت الرسائل والـــمفاوضــات غيــر المباشرة تسير على قدم وساق مع الإســـرائيليين في الوقت الذي شهدت العلاقة مع تركيا تــطوراً غير مسبوق.
ضماناً لبقائه ضرب النظام بعرض الحائط التوازنات الإقليمية التقليدية فأدخل تركيا، بعد إيران، إلى العمق الاستراتيجي العربي، ولعل الكثيرين يذكرون حماسة النظام لضم إيران وتركيا إلى الجامعة العربية.
أي أن النظام البعثي غلّب مصالحه على الأمن القومي العربي، وكان عقب آخيل الذي تعاظم من خلاله النفوذ الإقليمي لإيران وتركيا، ومما يجدر ذكره أن السياسة الخارجية السورية سجلت طفرة استثنائية في تلك المرحلة، بخلاف ما سبقها وما تلاها، ما قد يدفع إلى الظن بأنها لم تكن جهداً خالصاً للنظام، أو على الأقل بأنها كانت تعمل تناغماً مع توجهات إستراتيجية إقليمية تفوقها خبرة وحنكة. خلاصة الأمر أن النظام الذي ظهر كجزء من منظومة إقليمية طموحة تبين لاحقاً أنه الحلـــقة الأضــعف فيها، وأن ما بُني في فترة ضعف سابقة كان في جانب منه ارتهاناً مستحق الثمن.
أدرك الأتراك مبكراً بحكم تطلعاتهم ما لم يدركه النظام، لذا أتى أردوغان قبل اندلاع الانتفاضة ناصحاً الرئيس السوري بإجراء إصلاحات، ولعل أهم ما كان في جعبته حينذاك هو إدخال الإخوان إلى الحلبة السياسية السورية، ولو تم الأمر كما اشتهاه أردوغان لتعاظم النفوذ التركي من دون المرور في برزخ الانتفاضة. أما وقد اندلعت الانـــتفاضة فإن فرصة الأتراك ما زالت قائمة، ولعلها تكبر مستقـبلاً، من أجل لعب الدور الذي يتحفزون له، بخاصة إن صار دورهم مطلوباً على صعيد الداخل السوري وعلى الصعيد الدولي. في الواقع لا توجد قوة إقليـــمية أخرى مرشحة للعب الدور التركي، وفي غياب المنافسة الإقليمية لن يكـــون على الأتراك الإسراع في حسم موقفهم، بل قد يكون الــتريث هو السبيل الأنسب لكسب أكبر ما يــمكن مــن الســاحة السورية قبل القطاف النهائي.
حالياً يطغى هم إسقاط النظام على ما عداه، فيحجب الصورة المستقبلية لسورية، لكن من المرجح أن تخرج البلاد من هذه المعركة ضعيفةً إلى حد غير مسبوق على الصعيدين الاقتصادي والسياسي؛ هذه النتيجة ستكون أكثر كارثية في حال بقاء النظام مع عزلته الدولية. لاعتبارات عدة لا توجد قوة عربية مهيأة لملء الفراغ في سورية، المسألة هنا لا تتعلق بالمعونات الاقتصادية بل تذهب أبعد إلى الدور الإقليمي السوري برمته.
لآن ثمة فقط الأخ الأكبر الذي لا يتردد في التصريح بأن المسألة السورية قضية داخلية، في وقت لا يخرج أي تصريح عربي ينص على واقع تأثر الأمن القومي لدول عربية أخرى بمستقبل سورية. ليس منتظراً أن يجرب السوريون وطأة الأخ الأكبر التركي على غرار وطأة الأخ الإيراني في العراق، لكن التجارب تدل على أن التخلص من ظل الجار الأكبر لم يكن بسهولة التخلص من القوى العظمى الأبعد جغرافياً.
* كاتب سوري
الحياة