الأزمة السورية ومخارج الحلول الإقليمية والدولية
غازي دحمان
تركيا.. إنقاذ النظام
الخليج العربي.. إنقاذ الدولة والمجتمع
الغرب.. حسابات إستراتيجية
مع استمرار وتيرة تصاعد حدة الأزمة في سوريا، ووصولها إلى ما تصفه الأدبيات السياسية بـ”الأفق المسدود”، ظهرت على سطح الأزمة جملة من الرؤى والتصورات السياسية التي تهدف إلى إيجاد مخارج آمنة لهذه الأزمة، في محاولة لتجنيب سوريا، الدولة والمجتمع، الانزلاق إلى سيناريوهات خطرة قدرتها جهات الاختصاص في المستويين الإقليمي والدولي، وذلك في ظل بيئة داخلية وإقليمية رخوة وهشة.
وقد تباينت مستويات الحلول في تلك الرؤى ومداها، انطلاقا من مواقع الجهات الصادرة عنها وطبيعة مصالحها، الأمر الذي انعكس بدوره في هذه الرؤى المستقبلية للأزمة وسبل الخروج منها.
تركيا.. إنقاذ النظام
سوف يسجل تاريخ الأزمة السورية أن وزير الخارجية التركي أحمد داود أغلو، وبتفكيره الإستراتيجي العميق، كان من بين القلائل الذين قرؤوا آفاق الحدث السوري ووصلوا باكراً إلى طرح مخرجات سياسية تتفق وحجم الأزمة وطبيعتها، فقد دعا أوغلو إلى العلاج بالصدمة للخروج من أتون أزمة هي في الواقع أكبر بكثير من قدرة الذهنية الأمنية السورية على التعاطي مع استحقاقاتها، انطلاقا من الخبرة التاريخية لهذه الذهنية في التعامل مع أزمات سابقة، واقتصرت العلاجات حينها على الحلول الأمنية وحدها، وكأن أوغلو أراد إراحة سوريا من مخاض عسير لا تزال تتخبط في ثناياه.
حينها، لم يكشف أوغلو عن تفاصيل وصفته، وقد يكون ذلك قد حصل عبر الرسائل السرية المتبادلة بين قيادة البلدين، إلا أن التقديرات الدبلوماسية رأت أن وصفة العلاج بالصدمة لا بد أن يكون الوزير التركي قد استشف بنودها من واقع الأزمة وحيثياتها، وهي في هذه الحالة تنطلق من تفكيك أساسات الأزمة، بما فيها بنى أمنية متخلفة وقاهرة، وحالة سياسية عاطلة عن العمل، وواقع اقتصادي لم ينتج سوى الحرمان والبؤس.
وبمعنى من المعاني، يتطلب العلاج بالصدمة قيام الرئيس بشار الأسد بالتخلي عن الدوائر الأمنية المحيطة به، والأكثر من ذلك تقديم رؤوسها إلى المحاكمة والمساءلة، وإعادة بناء الحياة السياسية في سوريا عبر التخلي عن احتكار البعث للسلطة، والبدء بالعمل بنظام اقتصادي يحقق مصالح الشعب ولا تكون عوائده لفئة محددة وصل بها الابتذال والفجور إلى حدود الاستفزاز القاتل.
لا شك أن هذا النمط من العلاجات يتطلب الإقدام على تضحيات كبيرة من النظام، قد تكلفه التخلي عن مراكز قوة مهمة فيه، كما أنها تحرمه من أوضاع وامتيازات أسسها عبر عقود لنفسه، الأمر الذي يدفع إلى الاعتقاد بسذاجة مثل هذا الطرح.
فمن غير المتوقع أن يقبل أي نظام بإضعاف نفسه وتعريض بنيته للخطر، لكن في المقابل، يجب التوقع بأن العرض التركي قد حمل الكثير من الضمانات للنظام السوري، ولعل من أهمها إعادة تموضع هذا النظام في البنية السورية بطريقة أكثر عصرية وتحقق له الشرعية الداخلية والخارجية، كما تمنحه فرصة إعادة صياغة الحياة السياسية في سوريا وضمان وجوده كمكون له وزنه في هذه الصياغة، إضافة إلى إمكانية عودته كفاعل إقليمي مهم.
غير أن ثمة من لاحظ في الإستراتيجية التركية تجاه الأزمة السورية بعداً منفعياً أملته الحسابات المصلحية لأنقرة، ولعل من ضمن أهم هذه الحسابات خيار التعامل مع نظام ضعيف في الجارة الجنوبية يتكون من توليفة سياسية بعثية إسلامية تكون تركيا مرجعيته، وهو نظام شبيه بالنظام اللبناني في تسعينيات القرن الماضي وعلاقته بسوريا, وهذه مسألة حساسة بالنسبة لتركيا التي لها مصالح كبيرة في سوريا، كما تشتبك معها في العديد من الملفات (النائمة) والتي يهدد فتحها مستقبل العلاقات بين البلدين (مياه الفرات، لواء إسكندرونة).
والواقع أن هذا الخيار ليس مستجدا في العلاقة بين الطرفين ولا يشكل قطوعاً في سياقها الذي يمتد من اتفاقية أضنة، حيث كانت تركيا تفضل على الدوام نظاماً ضعيفاً، بل إن ضعفه شكل علاقة طردية مع عملية تحسين العلاقات معه.
الخليج العربي.. إنقاذ الدولة والمجتمع
مثّل موقف دول الخليج العربي طليعة موقف عربي، طالما رغب فيه الشارع السوري وتمناه، وكانت النذر الأولى لهذا الموقف قد ظهرت في الموقف القطري المنزعج من حالة القمع الرهيبة التي تمارسها السلطات السورية تجاه مجتمعها، وقد وجد الموقف القطري من هجوم فرق “الشبيحة” على السفارة في دمشق، احتجاجا على تغطية قناة الجزيرة المنحازة للسوريين وتلاقي تغطيتها مصداقية كبيرة بينهم، ذريعة للخروج من حالة الصمت العربي المديدة والمحرجة.
وقد توج الموقف الخليجي بدعوة الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز السلطات السورية إلى وقف إراقة الدماء وتخيير القيادة السورية بين الفوضى أو الاستقرار، كما صدرت عن الدول الخليجية مواقف ضاغطة على النظام السوري تمثلت باستدعاء سفرائها للتشاور، وكذلك تأييدها إرسال لجنة لحقوق الإنسان للوقوف على الأوضاع في سوريا.
ويرجع المراقبون الموقف الخليجي إلى عاملين أساسيين:
1- الضغط الشعبي الكبير الذي تعرضت له قيادات دول مجلس التعاون الخليجي والمتعاطف مع الثورة السورية، لدرجة يرى فيها المراقبون أن الموقف السياسي بدا متأخراً كثيراً عن موقف الشارع الخليجي وأكثر اعتدلا، وكان ملاحظا مدى تفاعل الشارع الخليجي مع الحدث السوري والذي عكست وسائل الإعلام جزءاً منه عبر المظاهرات والاحتجاجات فضلاً عن الفعاليات المناصرة للشعب السوري في أكثر من عاصمة خليجية.
2- العامل الثاني: خوف دول الخليج من انزلاق الحدث السوري إلى مخاطر تفكك الدولة والمجتمع، حيث استشفت القيادات السياسية الخليجية في الأسلوب المتطرف للسلطات السورية في التعامل مع الأزمة نذر خطر تحدق بسوريا (الدولة والمجتمع)، وهو ما دفعها إلى الخروج عن حالة الصمت القسرية، وخاصة وأن النظام السوري كان ومنذ بداية الحدث قد وضع قاعدة محددة للتعاطي الخارجي والعربي مع الأزمة، إما معنا وإما ضدنا، واتهم عناصر خليجية صراحة بـ”التآمر” على سوريا.
وعلى الرغم من أن البعض يأخذ على الموقف الخليجي بقاءه في دائرة التصريحات واكتفاءه بذلك وعدم ترجمة هذا الموقف إلى حالة عملياتية تشبه موقفه من الأزمة الليبية، فإن الواضح أن دول الخليج لا تزال تتعامل بحذر مع الأزمة، وسبب هذا الحذر يعود إلى تعقيدات الأزمة السورية واحتمالية بلوغها أطواراً خطرة، وبالتالي فإن الموقف الخليجي، وكما تعبر عنه التصريحات السياسية، يحاول الموازنة بين تطلعات المجتمع السوري للإصلاح والتغيير، وإنقاذ الدولة السورية من التفكك والضياع.
الغرب.. حسابات إستراتيجية
اتسم الموقف الغربي، وفي القلب منه موقف الولايات المتحدة الأميركية، بالتردد والحذر، وسبب ذلك راجع إلى الحسابات الإستراتيجية الغربية للموقع السوري وأهميته الإستراتيجية إقليمياً ودولياً والدور السوري المتشابك مع الكثير من الملفات الشائكة والحساسة، وقد بدا منذ بداية الأزمة أن التقديرات الأميركية ترى أن من شأن عدم الاستقرار في سوريا أن تمتد تداعياته إلى دول الجوار، لذا فإن تغيير النظام يعد أمراً غير مرغوب فيه لأنه سيحدث تغييراً في المعطيات السياسية الراهنة في المنطقة وعلاقات القوى فيها.
وقد ظل الموقف الغربي عموماً متأثراً بحزمة من المعطيات المتوفرة عن الحالة السورية، من نوع عدم وجود بدائل أخرى متاحة للنظام في ظل الفسيفساء الدينية والمذهبية والعرقية التي تحكم المجتمع السوري وتركيبة الجيش السوري، وهو ما دفع مرحلياً إلى تبني موقف وسط يسمح بأقصى قدر من المرونة في الحركة السياسية، عبر دعوة الرئيس بشار الأسد إلى قيادة حركة الإصلاح.
غير أن تصاعد حدة التوتر في الأزمة السورية دفع بالتقديرات الغربية إلى مكان آخر، حيث راحت ترى في استمرار معالجة النظام للأزمة بالطريقة العنيفة التي يتبعها من شأنه أخذ المنطقة كلها إلى الفوضى، وخاصة بعد صدور مؤشرات على ذلك في لبنان والعراق وبعض الدول الخليجية، الأمر الذي من شأنه الإضرار بشبكة المصالح الإستراتيجية للغرب في المنطقة كلها، وهو ما دفع إلى الانتقال إلى نمط آخر من التعاطي مع الأزمة السورية يتمثل بدعوة الرئيس الأسد إلى التنحي عن السلطة، وذلك في مسعى يبدو الهدف الأساسي منه محاصرة تداعيات الأزمة وعدم تمددها إلى المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية الكبيرة في التقدير الغربي.
لا شك أن الأزمة السورية، ورغم حزمة الأطروحات ومخارج الحلول المقترحة، لا تزال تتفاعل، وهي مرشحة للدخول في أطوار جديدة، يصعب التكهن بمعرفة أنماطها وطبيعة المخاطر الكامنة فيها، وعليه فإن المواقف الإقليمية والدولية مرشحة للتطور انسجاما مع الوقائع التي ستفرضها تلك التطورات، وإن كان الشارع السوري يبدو أميل لحل عربي، يتقاطع كثيرا مع المقاربة الخليجية للأزمة.
ورغم أن الخبرة التاريخية لا تدعو إلى التفاؤل بموقف عربي حازم، فإن ممكنات هذا الحل لا تزال في نظر السوريين واعدة، حتى لو أخذت المقاربات طابعاً غير تقليدي في طريقة تعامل النظام العربي مع أزماته الداخلية.
الجزيرة نت