الأسد في الغوطة.. كأنها سوريا 2010/ وليد بركسية
أعادت زيارة الرئيس السوري بشار الأسد للغوطة الشرقية، عقارب الساعة إلى العام 2010، حينما كانت سوريا دولة مركزية قوية يقودها رئيس واحد “للأبد” ومن دون أي أفق لمحاولة الاعتراض. فالصورة المتدفقة من “آخر جبهة عسكرية” اليوم، لا تروج لمفهوم نهاية الحرب، مثلما كانت كافة إطلالات الأسد المكثفة منذ الصيف الماضي، بل تركز على فكرة انتهاء أثر الثورة السورية على الدولة الأسدية التي استعادت عافيتها و”انتصرت”.
وطوال الزيارة، كرست الدعاية الأسدية مفاهيم آتية من حقبة ما قبل الثورة السورية، فجميع الجنود هتفوا بشعارات قديمة مثل “بالروح بالدم نفديك يا بشار”، بينما غابت الهتافات التي ابتكرت بعد العام 2011، مثل “الله محيي الجيش”، كما استعاد الموالون للنظام عبر مواقع التواصل الاجتماعي زخم فكرة “الأسد للأبد” بعبارات كلاسيكية من الفكر البعثي، لا تشابه العبارات التي استخدموها لإظهار تأييدهم للأسد بعد الثورة مثل “منحبك”.
اللافت في المشهد ككل أن الأسد لا يزور الغوطة بوصفه القائد العام للجيش والقوات المسلحة، ويتجلى ذلك بزيه المدني وتصرفاته الخارجة عن البروتوكول الرسمي، كسلامه باليد على القائد العسكري الذي يحييه تحية عسكرية تقليدية، أما عدم ارتدائه لربطة عنق فخاصية إضافية تبعد عنه صفة الرئاسة، وتحيله إلى صورة “الأب القائد للدولة والمجتمع”، وهي العبارة البعثية العتيقة التي يستعيد بها الأسد ظل والده حافظ الأسد، الذي هيمن على البلاد أربعين عاماً بداية بانقلابه العسكري العام 1970 وحتى السنوات العشر الأولى التي تلت وفاته.
وهنا، يطرح الأسد نفسه، كأب قبل أي شيء آخر، مستمداً سلطة اجتماعية – أخلاقية واسعة، تتعدى سلطته السياسية – العسكرية، ويتعزز ذلك بالثقافة الاجتماعية – الدينية التي كرسها البعث خلال العقود الماضية لصالح تأكيد الثقافة الأبوية – الذكورية في المجتمع السوري، والتي يستمد منها النظام شرعيته الأخلاقية على مستوى الوعي الجمعي. ويمكن مشاهدة ذلك بشكل مباشر في منشور لـ”رئاسة الجمهورية” في “فايسبوك” قبيل الزيارة قالت فيها أن “الدولة مثل الأب يتسع صدرها للجميع”.
ووفق هذا المنطق يصبح الانتماء للوطن والتضحية والأرواح التي خسرها الموالون للنظام واجباً عائلياً واجتماعياً وليس واجباً وطنياً فقط، وعليه فإن مجرد زيارة من الأسد لأبنائه على الجبهة وتقديمه الشكر لهم يصبح كافياً كجزاء وتعويض ورد معنوي في وقت واحد. بموازاة الرسائل التي يقدمها لبقية السوريين، من موالين ومعارضين، ويمكن تلمس كل ما سبق في حديث الأسد عن جوهر التضحية خلال توجهه إلى الغوطة الشرقية في سيارته.
ولا يدعي الأسد هنا المخاطرة بنفسه لأن الخطر الثوري انتهى عملياً، وبالتالي فإنه يمتلك حرية الحركة والتجوال في إقطاعيته الكبيرة، على طريقة العام 2010 عندما كان يتجول بسيارته للقاء المدنيين في “لقاءات عفوية”، لكن الأسد هنا يتجاهل حقيقة أن انتهاء الحرب أفضى بشكل حتمي إلى تفتت البلاد نحو كانتونات طائفية متصارعة، وأن الدولة التي عرفت يوماً باسم سوريا توقفت عن الوجود، وتحول النظام السوري نفسه إلى وكيل لحلفائه الأجانب الذين ضمنوا بقاءه في السلطة، إيران وروسيا، أي أنه لم يعد يمتلك القوة والجبروت اللذين كانا في يده قبل الثورة السورية، خصوصاً أن الميليشيات المحلية القوية تتحدى بها مركزية السلطة في دمشق، فضلاً عن الشرخ العميق الحاصل في المجتمع السوري، بفعل الدم الذي سال وبات محركاً للانتقام والعنف المضاد.
ولهذا كله يحاول النظام في خطابه ودعايته استعادة المركزية المفقودة التي شكلت أساس سلطته السابقة، ويعني ذلك أن النظام السوري يسعى لاستعادة جذوره القمعية بالقول أن الثورة كانت حادثاً عرضياً خارجياً انتهى، وأن المواطنة في سوريا الأسد تقتضي الخضوع التام للأب القائد، وينسف ذلك فكرة انكسار جدار الخوف من السلطة التي سادت بعد العام 2011، عندما تنازل الأسد شكلياً في خطابه المحلي عن سلطته الأبوية، وقدم نفسه كرئيس ينتمي إلى الشعب ويحاول حماية بلاده من الإرهاب، وسمح بحد أدنى من الحريات لمواليه من أجل انتقاد الفساد والمسؤولين عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
المدن