صفحات سوريةطريف الخياط

الأسد يحرق البلد


طريف الخياط

ظن السوريون أن حناجرهم قد تم استئصالها على مدى نصف قرن، ثم سمعوا وأسمعوا صوتهم.. يبدو أن ستة عشر شهرا من خذلان المجتمع الدولي والتشكيلات المعارضة، والدماء التي تملأ شوارعهم، ليست كافية كي يصمتوا مرة أخرى، ولن يصمتوا، على الرغم مما يحيكه الأسد ونظامه..

يعتمد الأسد في خطاباته وماكينته الإعلامية على بروباغندا المؤامرة الخارجية، أدواتها إرهابيون في الداخل، يتنوع وصفهم بين سلفيين و«قاعدة» وعصابات مسلحة. ويلاحظ المتتبع لخطاباته إفلاسا في الرصيد الكلامي، بدا – على سبيل المثال – أثناء لقائه في يونيو (حزيران) الفائت مع القناة الإيرانية الرابعة، حين أعاد استجرار نفس المبررات التي ساقها في أول خطاب بعيد انطلاق الثورة، والتي علل بها تأخره بتنفيذ ما وعد به من إصلاحات عند وراثته للسلطة عام 2000. كما يلاحظ أيضا تطور الخطاب من تقليل لأهمية الحراك الثوري بلغ حد إنكاره، إلى وصفه بالحرب الحقيقية، كما في كلمته التوجيهية أمام الحكومة الجديدة، وتصريحه لجريدة «جمهوريت» التركية.

من زاوية أخرى، فإن الأسد اعتمد على تصوير أن الضحايا هم من أنصار الحكومة، بما يبدو ظاهريا محاولة للعب دور الضحية، لكن حين توجه الرسالة إلى الإعلام الغربي فإنها توحي بوجود فريقين متصارعين على الأرض، وخصوصا أنه قد قلل في لقائيه مع محطتي «إي آر دي» الألمانية و«إي بي سي» الأميركية من نسب مؤيديه، ولم يدع أنهم يمثلون غالبية الشعب السوري. يكتمل المشهد بتطرق الأسد مجددا وتأكيده على مسألة التقسيم في خطابه الأخير أمام مجلس الشعب، متهما معارضيه بأبواق الطائفية، واصفا الكثير من الشباب السوري بالإرهاب والعنف واللصوصية والمرتزقة، مصرحا بأنه ليس رئيسا لكل السوريين. بذلك يبدو أن الأسد الذي اعتبر في الخطاب نفسه أن العدو أصبح في الداخل، قد قرر أن يدخل البلد في دوامة حرب أهلية طائفية، واضعا احتمال التقسيم نصب عينيه.

منذ بواكير الثورة، لم يعبر الخطاب السياسي والإعلامي للنظام عن واقع على الأرض، بل خطط لخلق هذا الواقع عبر زج مفردات وإشارات طائفية وعرقية كانت مغيبة عن الإعلام الرسمي لعقود، ودأب على تشكيل سرديات عن مسلحين وسلفيين ليعترف الأسد مؤخرا بأن التسلح قد بدأ بعد رمضان من العام المنصرم. لقد شكلت تلك الإيحاءات تهديدا واستدعاء لمدلولاتها. وفي الوقت نفسه، تم تعزيزها بممارسات فعلية متعددة لسنا بمعرض ذكرها هنا، لكنها كانت فاعلة، وإن جزئيا، بإحداث خلل بنيوي في المجتمع والثورة. وبعد فشل الحل الأمني القائم على الترهيب والاعتقال والتعذيب والقتل، بدأت مرحلة حصار المدن وقصفها، ومن ثم سلب ونهب بيوتها، وحصلت المجازر التي صممت لتبدو طائفية، مما عزز الاحتقان الطائفي وأظهره على السطح. فكانت الأجواء مواتية لتوجيه بوصلة الأسد نحو ما يبدو أنه خطة بديلة، معتمدا على تصوير الثورة كحرب أهلية تدفع باتجاه تقسيم سوريا، والتهديد بنقل عدوى تلك الحرب إلى دول الجوار، بما يمكنه من استخدام الأبعاد الإقليمية لهذا السيناريو، كورقة تفاوضية تضغط على المجتمع الدولي، في سبيل تأمين سلطته على كامل التراب السوري أو جزء منه.

بعض المتحدثين على شاشات الإعلام يشيرون إلى أفغنة أو بلقنة أو عرقنة أو لبننة أو تقسيم سوريا، والأسد يهلل لمخاوفهم، المجتمع الدولي بدوره حذر في الأشهر الأخيرة من الحرب الأهلية، وأسبغ عليها مؤخرا الصفة الرسمية، بعد إعلان منظمة الصليب الأحمر الدولية لهذا الأمر. لا يخلو ذلك الإعلان من نوايا خبيثة وتداعيات سلبية، تزيد المخاوف من تقسيم قد يشكل نقطة توافق بين الكتلتين الشرقية والغربية، تراعي مصالحهما عبر تسوية قد تضع الأسد ضمن حساباتها أو تستثنيه. إن طرحا من هذا النوع يرتبط بتطورات الملف النووي الإيراني وتداعياته العسكرية المحتملة، وموقف تركيا لما يشكله من تهديد على أمنها واستقرارها، والأهم هو ارتباطه بالوضع الداخلي السوري الذي شهد نقلة نوعية بانضمام دمشق إلى مسرح عمليات الجيش السوري الحر، وتسارع وتيرة الانشقاقات، وانشقاق العقيد مناف طلاس صديق الأسد وأحد أركان نظامه.

تتسارع الأحداث في سوريا لدرجة يصعب التنبؤ بمآلاتها، وتبقى جميع الاحتمالات مفتوحة، ما زال الموقف الروسي يتسم بالمراوغة والموقف الغربي يراوح مكانه، قد نشهد تطورات نوعية تحمل بذور انهيار دراماتيكي للنظام طال انتظاره، وقد تتطور الأحداث فيغادر الأسد دمشق نهائيا إلى الخارج أو يتمترس في الساحل، وقد يستمر العنف الدامي في الشوارع كطقوس موت روتينية. يغيب التأثير الفاعل للمعارضة السياسية السورية بكل تشكيلاتها، عن مجريات الأحداث الداخلية والدولية منها، بسبب انعزالها عن الشارع والكتائب المسلحة من جهة، وضعف أدائها في الأروقة السياسية من جهة أخرى.

العنصر الأهم أن سوريا تتعرض لخطر وجودي حقيقي، يتطلب من المفكرين والمثقفين ورجال الدين والسياسيين، تحمل مسؤولياتهم وتوحيد جهودهم، لبحث ودراسة وتفعيل آليات ناجعة، تعزز اللحمة الوطنية وتتوجه عبر قنوات إلى القاعدة الشعبية، بمن فيها حملة السلاح، لتكشف من يقف وراء الخيوط المحركة للتحريض والتحريض المضاد، متناولة بالتحليل الأساليب والوسائل المتبعة لحرف الثورة عن مسارها، ومعرية الأهداف القريبة والبعيدة لتحويل الاستقطاب والاحتقان الحاصلين إلى حرب أهلية شاملة، لها تداعيات على مستقبل البلاد ووحدتها.

تبين الوقائع أن نظام الأسد كالمصاب بالسرطان، يتلقى جرعات علاجية قوية من روسيا وإيران لإطالة عمره أو لغايات أخرى، ويسعى لأن يغرس أورامه المسمومة في الجسد السوري، فماذا سيفعل السوريون؟

* كاتب سوري

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى