الأقليات تعزل حاميها/ عمر قدور
عندما بدأ النظام مع مستهل الثورة الترويج لبقائه كحامٍ للأقليات، كانت لعبته الإعلامية تستهدف مستويين. المستوى الخارجي، الذي يركز من خلاله على الأقليات المسيحية في سوريا، مُسترجعاً على وجه التحديد الهجرة الكثيفة لمسيحي العراق إثر سقوط صدام حسين. ولمّا كان التركيز على المسيحيين يخدم إعلامياً، فإنه ضمن الحسابات الفعلية الداخلية لا يقدم عوناً للنظام، لأن أبناء الطوائف المسيحية لاعتبارات عديدة بعيدون عن الانخراط المباشر في حرب النظام، ولم يفلح في استغلال مخاوفهم لتجنيد كتلة معتبرة منهم. العامل الأقلوي لدى الطوائف المسيحية نفسي في الدرجة الأولى، ولا تسعفه موارده البشرية للانخراط في مواجهة الأكثرية، بصرف النظر عن وجود النوايا أو عدمها.
المستوى العملياتي الأهم بالنسبة إلى النظام يتعين في كتلتين رئيسيتين داخلياً، الأكراد في الشمال والدروز في الجنوب، بما أن ولاء غالبية الساحل محسوم لصالحه. في الشمال، اشتغل النظام على استمالة الأكراد وتوظيفهم لخدمة هدفين، أولهما منع تقدم الثورة وسيطرتها على كامل الشمال بحكم سيطرتها شبه التامة على الأرياف الشمالية لمحافظتي حلب وإدلب، وثانيهما توجيه رسالة للجارة تركيا عن خطر استقلال أكراد سوريا على أمنها القومي. بواسطة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي pyd ولجان الحماية المسلحة التابعة له، تمكن النظام من تحييد الأكراد عن الحراك الثوري، بعد أن كانت المناطق الكردية قد شاركت بفعالية كبيرة في المظاهرات المنادية بإسقاط النظام.
إلا أن هيمنة حزب الاتحاد الديمقراطي لم تكن لتترسخ فقط بامتلاكه السلاح، فقد كان يلزم على الصعيد الإديولوجي تغذية نوازع الاستقلال الذاتي عند الأكراد، أو ملاقاة ما هو موجود منها أصلاً، من أجل عزلهم عن القضية السورية ككل. الحق أن المعارضة بدورها لم تتجرأ على تقديم تصورات “ثورية” للمسألة الكردية في سوريا، وبينما راح النظام يتخلى نهائياً عن خطابه العروبي لصالح خطاب “تحت وطني”، تبرع قسم منها بتبني الخطاب العروبي الذي يتوق الأكراد إلى التخلص منه.
ما حدث في المناطق الكردية خلال السنتين الأخيرتين هو تعزيز مفهوم الإدارة والاستقلال الذاتيين، جنباً إلى جنب مع تعزيز مفهوم الحماية الذاتية. وإذا كانت الخيوط لم تنقطع مع النظام فإن إستراتيجيته لم تدعمه بحليف كردي فعال بقدر ما نجحت في تجنب العداء العام للأكراد. الواقع أن الأكراد أصبحوا حماة أنفسهم، وأصحاب إدارة شؤونهم، وأكثر ما يهمهم هو الحفاظ على مكاسبهم الحالية وتطويرها. وربما تتساوى مخاوفهم من انتصار المعارضة مع مخاوفهم من انتصار النظام، لأنهم قد جربوا بطش الأخير، ولا ينوون العودة إليه.
في الجنوب، كانت الأمور تسير طوال الوقت بهدوء وصمت. الحراك الشبابي المساند للثورة جرى إجهاضه من قبل النظام، وأيضاً من قبل الآليات الاجتماعية التقليدية. الدروز عموماً، وعلى الرغم من آليات الضبط الطائفي القوية، كانوا على الدوام يرون أنفسهم أولياء الوطنية السورية وثورتها ضد الفرنسيين. وإذا كان من جُرح حديث تعرضوا له بعد الاستقلال فهو من النظام نفسه، إذ من المعلوم أن حافظ الأسد أثناء سيطرته على الجيش، قبل أن يصبح رئيساً، كانت له اليد الطولى في تسريح عدد كبير من الضباط الدروز تعسفياً. ومن المعلوم أن الأسد الابن قمع احتجاجات أهالي السويداء بسبب نزاع مع البدو عام 2001، وأغلب الظن أن هذا ما دفعه إلى زيارة مدينة السويداء مع بدء الثورة مغازلاً أهلها.
التوجهات المعروفة، وغير المعلنة كتابةً، لزعامة الطائفة الروحية كانت تنص على عدم استفزاز أيّ من طرفي النزاع. لكن الأمر لم يخلُ من اختراقات للنظام هنا، أما الاختراق الأهم لهذه السياسة هو تجنيده بعض شبان الطائفة “المدنيين أصلاً” في المواجهة مع المحيط الثائر في ريف دمشق، بينما كان أقرانهم يتخلفون بنسب متزايدة عن الخدمة الإلزامية في القوات النظامية. ذلك لا يمنع أن التوابيت كانت طوال الوقت تعود إلى الأهالي ويُدفن الضحايا من دون مظاهر احتفالية يستغلها النظام عادة كمناسبات للتجييش وإظهار الولاء.
الحدث الأبرز الذي شغل المتابعين قبل أيام تمثّل في المظاهرات والاعتصامات التي شهدتها مدينة السويداء، والتي أراد بعض المتحمسين تحميلها أكثر مما تحتمل، فتواترت التأويلات بين كونها انتفاضة على النظام، وكونها انتفاضة على مشيخة العقل، ما اضطر الشيخ وحيد بلعوس الذي وضعته التكهنات على رأس الانتفاضة إلى وضع الأمور في نصابها من خلال بيان مكتوب، ورد فيه حرفياً تعبير “لسنا مؤيدين ولسنا معارضين، بل نحن وطنيون، ومن لا يغار على طائفته، لا يغار على وطنه، وما زلنا سائرين على هذا النهج، وكل من يضر أبناء الطائفة ليس منا، ولسنا منه”.
لندع جانباً اللغة التوفيقية في البيان، فأهم النقاط التي يبدو أنها تلاقي قبولاً عاماً لدى أبناء الطائفة، وإن كانت لا تلبي طموحات المؤيدين، أو بعض المتحمسين للثورة، هي تحريم مشاركة المدنيين الدروز “في ميليشيات النظام”، مع المطالبة بأن يؤدي أبناء المحافظة خدمتهم الإلزامية في المحافظة نفسها، والتنويه الواضح بأن أبناء المحافظة قادرون على الدفاع عن أنفسهم بأنفسهم، أي أنهم ليسوا أقلية مستضعفة بحاجة إلى الحماية المزعومة من النظام.
بالتأكيد لا يمكن ضمن الواقع المعقد التكهن بانقلاب جذري على النظام، لكن من المؤكد أن لعب النظام بورقة الأقليات ليس “كما يرغب” تهديداً للثورة فحسب، لأن وعي الأقليات لمصالحها قد يدفعها إلى التخلي عن نظامٍ، لم يثبت حرصاً في الحفاظ على أرواح أبنائها، أو قدرةً على حماية نفسه أصلاً.
المدن