الأقليات والخارج/ فاطمة ياسين
مع تزايد المواجهة الإيرانية السعودية حدة وتصعيداً، تزداد عواملُها المذهبية جلاءً ونصوعاً، إيران بدعم فني وعسكري ومالي، وحتى بشري، لوكلائها في سورية ولبنان واليمن.. والسعودية تردُّ بمساندة برية مباشرة في البحرين، وهجوم جوي على مواقع الحوثيين في اليمن، ومساعدة بعض فصائل المعارضة في سورية.
يفرض العنوان السني الشيعي نفسه على كامل السيناريو، ويغذّي أسماء الدول الداعمة الرئيسية التي ترغب بإيجاد مناطق نفوذ عريضة، تتيح لها التحكم بهذه المناطق، على نحو وصائي، إذ تشعر الدول الداعمة بجاذب عاطفي ذي طبيعة طوائفية عابرة للحدود. ويستفز التعاطف ذو الطبيعة المادية المكوناتِ المختلفةَ، فتشتد علامات التوتر، وتصل، كما هو حاصل حالياً، إلى حدود الانفجار.
ليس هذا النوع من الصراع علامة فارقة للراهن المتصدع، فقد كان التعاطف الطائفي تقليداً عميقاً ذا جذور تاريخية، بدليل أن القوى العظمى في القرن التاسع عشر نصبت نفسَها حامية لبعض المجموعات الدينية، بهدف إيجاد موطئ قدم لها، ونجحت في ذلك الأمر الذي أحدث بؤرة عدم استقرار، وفوالق مذهبية ذات طبيعة انفجارية.
استخدمت روسيا القيصرية، في القرن الثامن عشر، الأقليات الأرثوذكسية الموجودة على أراضي الدولة العثمانية منصةً للتدخل في شؤون العثمانيين، وادعت فرنسا لنفسها تمثيل الأقليات الكاثوليكية، وبشكل أكثر وضوحاً الطائفة المارونية، وانتزعت لنفسها حق التدخل في أراضي السلطنة أيضاً، وبموجب هذا الحق، دافعت عن المسيحيين في مواجهات العام 1860 الشهيرة، ونشبت “حرب القرم” أصلاً لمواجهة التدخل الروسي المباشر في أراضي السلطنة.
يُضعف هذا النوعُ من الاصطفاف الدولَ القومية، ويعرّضها لاهتزاز تقسيمي عنيف، ويُضعف السيادة الوطنية، ويُعَرِّض الدول للتفكك بسهولة، فالتدخل المذهبي يغذي الصراعات، ويوسّعها، ويخلق مناطق عدم انتظام، وفوضى، وتخفي غالبية هذه الصراعات ذات الشكل المذهبي وراءها أهدافاً جيوسياسية، تأخذ من الشكل الطائفي نموذجاً للمواجهة، وذلك لسهولة العزف عليه وسرعة الاستجابة له، فإيران، في الظرف الحالي، وعلى الرغم من تحالفها ذي الطبيعة المذهبية (الشيعية) الخالصة، يكاد هدفُها النهائي يُفْصح عن نفسه، برغبتها بموطئ قدم على شواطئ المتوسط، وقدم أخرى على مضيق باب المندب، ولا بأس من توسيع رقعة وجودها على الخليج العربي، وهي الدولة التي لا تخجل من إعلان لهفتها للوجود على الشاطئ الآخر من الخليج.
تلجأ المجموعاتُ المذهبية الصغيرة، بدورها، إلى حُماة إقليميين، لشعورها بالخطر، أو بالغبن، الذي ربما لا يكون حقيقياً، من قِبَلِ مجموعات محلية أخرى.. وأحياناً، تضحي بمصالحها في سبيل الحصول على الحماية والدعم اللازمين، فتتحول إلى مجرد “زمبرك” تحريضي، يعرّض مصالحها، أولاً، لخطر داهم، وقد تتحول قضيتها برمتها من شأن وطني إلى قضية مذهبية خالصة، وتجد الدول الإقليمية في هذه الوضعية فرصة سانحة لمزيد من التدخل والسيطرة، مثل حزب الله الذي يشكل “استعصاءً” سياسياً وعسكرياً يحول دون إعطاء لبنان شكل الدولة، بسبب وجود هذا الحزب الواسع الصلاحيات، المسيطر على البلد، تحت شعارات الممانعة والتحرير، الذي اتخذ، أخيراً، شكلاً خطيراً بتداخله العضوي في الحرب السورية، لمجرد تلقيه أمراً إيرانياً بذلك، وليس استجابة لحاجة داخلية ملحة.
لحل هذا العقدة، يجب حَلُّ الصراعات التي تختفي وراء الاشتباك المذهبي الصرف، واستيعاب المجموعات الطائفية (شيعة/ سنة) ضمن هياكل حكم مناسبة، تخفف جاذبية الارتهان للخارج، لكن هذه المهمة ليست سهلة، وليست متاحة في الوقت الراهن، بعد عقود من سلوكيات التمذهب والتمترس خلف الطائفة، وتشكيل أحلاف دينية، ما أدى إلى تلاشي “الوطني” بين تلافيفها المعقدة. ولا يمكن، في الوقت نفسه، “وضع الحزن بالجرن”، فكل شيء يتآكل بسرعة جنونية، الأرض، والوطن، والإنسان، والموارد، لصالح الطائفية، حتى أصبح الحديث عن التقسيم” مهيمناً، وقد يصبح مستساغاً كحل لوقف الحرب، لكنه، في الواقع، تمهيد لحرب جديدة بين طوائف أصغر، وتمهيد آخر لحروب حدودية ذات أخطار وقدرات تدميرية تفوق كل ما هو حاصل.
العربي الجديد