صفحات سورية

هل تتجه سورية لتصبح لبنان آخر؟


معتز مراد

لبنان، الدولة ذات التنوع السكاني والطائفي الكبير، عاشت في الربع الأخير من القرن الماضي حربًا أهليةً طاحنة استمرت لسنين طويلة، راح ضحيتها عشرات آلاف القتلى ومئات آلاف الجرحى، وبنية تحتية مهدمة بالكامل، واقتصاد مدمر. ونتج عنها نسيج اجتماعي لبناني ولاؤه الأول للطائفة لا للدولة. ففي كل حالة غليان أو توتر داخلي، يصبح المواطن شيعيًا أو مارونيًا أو سنيًا أكثر منه لبنانيًا. ولو كانت مصلحة لبنان كدولة أهم من مصلحة الطائفة أو مصلحة تيار معين عند اللبنانيين، لكانت هذه الأطراف قد تغلبت على نقاط ضعفها، والمتمثلة أساسًا بتبعيتها للخارج وانعدام الثقة فيما بينها. والذي أدى إلى شلّ دور الدولة سياسيًا وإقليميًا، وجعلها تنأى بنفسها عن الدخول في أهم الملفات والقضايا التي تؤثر على مستقبلها القريب والبعيد.

الديمقراطية في لبنان هي ديمقراطية نسبية، تعتمد على المحاصصة وتوزيع مراكز السلطة في الدولة على الأطراف جميعها. فرئاسة الحكومة للسنة، والمجلس النيابي للشيعة، ورئاسة الدولة للمسيحيين المورانة، وللدروز حصتهم في الحكومة. هذه الديمقراطية حققت نوعًا من توازن القوى في لبنان، ولكن جعلته دائمًا مسرحًا للتوتر والتجاذب السياسي الذي يعرقل النهوض الواضح نحو المستقبل. والسبب الأساسي في ذلك أن كل كتلة أو طائفة قد وجدت داعمًا إقليميًا لها، مما أدى إلى جعل القرار اللبناني غير مستقل وتابع لإملاءات القوى العظمى. فشيعة حزب الله تدعمهم إيران، والسنة ممثلين في تيار الحريري تدعمهم السعودية، وفرنسا تدعم الموارنة الكاثوليك، والدروز تدعمهم بريطانيا ..إلخ . ولكن رغم كل تلك العيوب الملاحظة، فإن الشكل الديمقراطي اللبناني كان أفضل الأشكال العربية المتاحة في السابق.

هذا الوضع السياسي التابع حقيقة لتوازنات القوى الخارجية، يجعل لبنان غير قادر على فرض نفسه كدولة ذات سيادة، لها أمن وطني وقومي يؤخذ بالحسبان على الصعيد الدولي، بل يجعلها مرتعًا لكل قوة طامحة في خوض معاركها خارج أرضها.

سوريا بشعبها قبل الثورة وعبر التاريخ، كانت مضرب المثل في تعايشها الاجتماعي، وانصهار شعبها في جغرافيته وتاريخه. ولكن وبسبب القمع الوحشي للناس المطالبين بالحرية، يتجه هذا النسيج البشري المتعايش اجتماعيًا منذ مئات السنين نحو التفكك والخصومة، ويزداد تفكير كل مكون على حدة، بالحاضنة الدينية والقومية التي تحقق له مستقبلا أفضل وأضمن من المستقبل الذي تحققه له دولة مصبوغة بلون الأكثرية.

إن التدمير الذي طال معظم المدن والمحافظات السورية يشبه في نتيجته ما تحقق خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وسوف تحقق الدول العظمى ما تريده من التبعية السياسية في قرار الدولة السورية في المستقبل. وكذلك فإن تدمير النسيج الاجتماعي المستمر خلال الأشهر الماضية، سيجعل من التعايش السلمي مستحيلا. ولن يقبل السوريون المذبوحون أن يكون من ذبحهم، أو من حمى وسكت عن قتلهم، لن يرضوا به مواطنا له كامل الحقوق الدستورية. لذلك لابد أن تلجأ الطائفة العلوية كشريك واضح أو ساكت عن القتل، لطلب الحماية الخارجية، وبالتالي وجود قسري في بنى ومؤسسات الدولة، وحصص واضحة في قوى ومراكز القرار. أما بالنسبة للأكراد فكل يوم يزيد في عمر الثورة، يزيد معه احتمال إقامة إقليم أو حكم فيدرالي خاص، أو الالتحاق بكردستان العراق. ولا ننسى أيضا أن الإمعان في القتل وقمع الثورة يؤدي فيها إلى التطرف ودخول تيارات لم تكن موجودة أصلا في بنيتها، كالقاعدة والسلفية الجهادية المتطرفة، وهو مايجري حاليا. وبالتالي إعلان الدولة أو الخلافة الإسلامية، ورفع رايات القاعدة من قبل تلك الكتائب المقاتلة. وهذا سيجعل من الأقليات الأخرى الدرزية والمسيحية وغيرها تبحث عن ملاذات آمنة خارجية تدعمها وتفرض لها موقعا مناسبا في الدولة.

هذا المشهد الجديد المتطور كل يوم، يناسب تماما القوى العظمى الساعية لحماية أمن إسرائيل. ويجعل من سوريا دولة تابعة بامتياز وغير قادرة على الـتأثير الإقليمي، بل منشغلة بمشاكلها وتوازناتها الداخلية.

خطورة هذا المآل، تجعل من واجبنا التذكير بمبادئ الحل والخروج من هذا المستنقع. فسوريا دولة مواطنة مدنية ديمقراطية تعددية سوف تنقذنا من كل هذه المخاطر، وإن كانت فترة إعادة البناء ستطول. ولكن أي كلام آخر عن (دولة إسلامية أو انتقام من طائفة أو حقوق غير كاملة لكل المواطينن مهما كانت أديانهم أوقومياتهم، أو حقوق إنسان لا تماشي المعايير الدولية) كل هذا لن يكون في مصلحة شعبنا أبدًا. وسوف يؤدي بسوريا لتصبح لبنان آخر على أقل تقدير.

‘ كاتب من سورية

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى