الأيام الصعبة في سورية/ الياس خوري
تعيش سورية زمنها الصعب، يكفي ان نقرأ الأسى على وجوه السوريات والسوريين في منافيهم الجديدة داخل سورية وفي الدول المجاورة، كي نرى الهول. من المجاعة التي صارت سلاح النظام الاستبدادي، الى استمرار مسلسل التدمير الشامل للبلاد الذي اتقنه النظام وتفوق فيه على الاسرائيليين انفسهم.
وصعوبة الزمن السوري لا تتجلى فقط في الواقع الانساني المؤلم الذي صنعته وحشية الاستبداد، بل تتجلى ايضا في المستويين السياسي والثقافي، بشكل لا لبس فيه.
ففي السياسة، هناك انسداد شامل لاحتمالات الحل السياسي، النظام وحليفاه الايراني والروسي يواصلون سياسة الأرض المحروقة، بينما تجد المعارضات السورية نفسها في العراء الدولي والاقليمي.
اما في الثقافة فان المسألة تبدو اكثر تعقيدا، لأن الانسداد السياسي ينعكس بشكل سلبي على الثقافة وعلى الخطاب الاخلاقي، بحيث صار من الضروري العودة الى البديهيات الاخلاقية، كي لا يجرفنا الخطاب السياسي السائد الى الصمت والموت.
الانسداد السياسي صار واضح المعالم بعد سقوط رهانين كانا مدمرين منذ البداية: الأول هو الرهان على التدخل الخارجي، الذي تأكدت استحالته لسببين: الموقف الاسرائيلي الذي يريد لحرب التدمير التي يشنها النظام ان تستمر الى ما لا نهاية، والموقف الامريكي بالانسحاب الجزئي من المنطقة بعد فشل الاحتلال البائس للعراق في تحقيق اي هدف. والثاني هو الاعتقاد بأن دول الخليج قادرة على قيادة المنطقة، وتصفية حسابها مع ايران في الساحة السورية.
ما كان لهذين الخيارين البائسين ان يسودا لولا التفكك واللامسؤولية اللذين طبعا ‘مؤسسات’ المعارضة السورية في الخارج. بحيث صار المعارضون كناية عن مقدمي برامج تلفزيونية في الفضائيات الخليجية.
الحديث عن المعارضات يطول، ولعل التحليل الذي قدمه صبحي حديدي في مقاله: ‘الائتلاف السوري مبتلى بالمعاصي’ (‘القدس العربي’ 14-11-2013)، يقدم للقارئ مدخلا لفهم ازمة المعارضة ومأزقها في آن معا.
غير أن المستوى الثقافي يكشف عمق الأزمة الأخلاقية التي تعيشها ثقافتنا في مواكبتها للألم السوري الكبير. اذ يبدو اليوم، وكأن اجهزة النظام وحلفائه قد نجحت في تصوير الوضع في سورية على انه خيار بين استبدادين: اما النظام الذي يدّعي علمانية طائفية مقيتة والمتحالف مع اصولية الملالي، واما التيارات الاصولية من ‘داعش’ الى ‘النصرة’ الى آخر ما انتجه او يمكن ان ينتجه تفكيك المجتمع السوري عبر تدمير حواضره واريافه.
لا اريد ان ادخل في دهليز التحليل المؤامراتي الذي يجد ما يدعمه في قيام النظام باطلاق التكفيريين من سجونه، وهو الذي سبق له وان استخدمهم في العراق، ولا في حكاية ‘الهرب’ الكبير من ابو غريب الذي نظمته القاعدة في العراق كي يصب في ‘داعش’، ودور نظام حزب الدعوة الذي يحكم العراق اليوم في اطلاق الوحش من قمقمه، فهذه قراءة قد تكون صائبة، لأن لها سابقة ‘فتح الاسلام’ في لبنان، التي ادت الى تدمير مخيم نهر البارد.
لكن المسألة اكثر تعقيدا، وهي تشير الى ان الحضور الخليجي والتركي الذي سد ثغرة غياب المعارضة السورية عن تحمل مسؤولياتها، قاد الثورة السورية في مسالك وعرة، وحوّل العمل المسلح للثورة الى اداة بيد النظام وحلفائه.
تعقيد المسألة يأتي من الأسئلة الثقافية والأخلاقية التي تطرحها، وهنا تقع المسألة الكبرى في رأيي. وكي اكون واضحا منذ البداية، فأنا لا أسعى الى ادانة احد من المثقفين السوريين والعرب الذين كانوا اوفياء لتاريخ مديد من علاقة الثقافة بالسلطة الاستبدادية، لأن الموضوع اكثر اهمية من لغو حوّل الموقف الثقافي الى احد مطايا الاستبداد. ما يؤرقني هو كيف نبلور موقفا ثقافيا- اخلاقيا يتعالى على الخطاب الطائفي السائد، ويكون مخلصا للتضحيات الكبرى التي قدمها ولا يزال يقدمها الشعب السوري.
والحق يقال انني لم اعد معنيا بخطاب يساري خشبي يلجأ الى خطاب ممانع دفعه في الماضي الى تأييد سفاح مثل ميلوسوفيتش ويدفعه اليوم الى تغطية جرائم بشار الأسد ورجال بطانته. فالمسألة لا علاقة لها بمقاومة الامبريالية الامريكية لا من قريب او من بعيد، كما انها لا علاقة لها بالعدالة الاجتماعية التي قامت الاصولية بمحوها من اجل خدمة الرأسمالية المتوحشة.
كما انني انظر بريبة الى خطاب ليبرالي ينسى عمدا الاحتلال الاسرائيلي، ويستسلم لزعامة خليجية لا تملك شيئا من الصفات الليبرالية.
البحث يجب ان يبدأ من المسألة الأخلاقية، كيف نقف مع الضحية، وكيف ندافع عن اخلاق هذه الضحية ونمنع انجرارها الى ردود فعل ديكتاتورية وطائفية تعيد انتاج نظام الاستبداد بشكل جديد. والحق يقال ان الرسم الكاريكاتوري للفنان سعد حاجو، حيث نرى يافطة كتب عليها ‘يسقط حزب الدعش العربي الاشتراكي’ يلخص هذا الموقف الأخلاقي، كشرط لا بد منه كي نستطيع الدخول في اي نقاش سياسي.
المسألة تبدأ من التزامنا الأخلاقي امام التضحيات الهائلة التي قدمها ويقدمها السوريات والسوريون، وان لا ننسى لحظة ان الانتفاضة الشعبية السورية مشروعة وضرورية وعادلة، وان شعار الحرية والكرامة الذي قضى دفاعا عنه عشرات الوف الشهداء، هو شعار الحق الذي لا يستطيع اي باطل حجبه.
من هنا نبدأ، ومن حق هذا الحق علينا الا تنسينا منعطفات السياسة الدولية وصعوبة الأيام في سورية، ان الحرية ومقاومة الاستبداد هي اساس كل اخلاق وكل سياسة. لا وحشية النظام ولا انحطاطية ‘داعش’ و’النصرة’ ولا ازمة المعارضة يجب ان تنسينا اننا مع حرية السوريين مهما جرى، وان لا خطاب يعلو على حق الانسان في ان يكون انسانا.
القدس العربي