الإبراهيمي وصورة الديبلوماسية الدولية في القضية السورية/ بشير هلال
مقابلة الأستاذ غسان شربل في «الحياة» مع السيد الأخضر الإبراهيمي المبعوث الخاص المستقيل للامين العام للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية هي، في جانبٍ منها، شهادة صالحة لما يُسمى «التأريخ الفوري» لبعض جوانب القضية السورية. لا يتعلق الامر بسرديته لوساطته وفشلها وحسب بل بتقديم صورة أطرافها واتجاهاتهم بما يتجاوز اليوميات، وخصوصاً في موضوع آليات التوسط وطبيعة «النظام الدولي» الحالي وإشكالياتها التي جعلت الأزمة تتفاقم بدل تضاؤلها.
ذلك لا ينفي بالطبع وجود فوارق بين تأويل مسؤول «اممي» يتأثر بمفهومه للعلاقات الدولية وللديبلوماسية وبموقعه و «واجب التحفظ» وبين تفسير إجمالي لما يحصل منذ ثلاث سنوات ونيف حين بدأت الثورة السورية.
ما يلفت النظر هو إعادة تأكيد الابراهيمي أنه كان يعرف عندما قبل مهمته أنها شبه مستحيلة. ويُقدم تباعاً اسباباً متقابلة لذلك بحيث تبدو المسؤولية عنها «مشتركة»، وفي مقدمها أن النظام يعتبر «ما يحدث مجرد مؤامرة خارجية من واجبه أن يحاربها بكل الوسائل ويفشلها»، مقابل أن المعارضة «ومعها من يدعمها في المنطقة والعالم مصممة على أن لا حل إلا بإسقاط النظام»، وأنها في لحظةٍ ما عام 2012 اعتبرت انها منتصرة تشجعها في ذلك التقارير الاستخبارية الغربية. وثانيهما أن المسافة بين التفكيرين الأميركي والروسي لا يمكن ردمها بحيث لا يقبل الاول ببقاء الاسد من دون أن يعني ذلك حتمية زوال النظام، وأن الثاني لا يريد الضغط عليه للرحيل فيما يقول إن «تأثيره عليه ضعيف»، وأن اتفاق جنيف 1 كان «سطحياً» ولا يملك آلية للتنفيذ، وأن الروس والصينيين رفضوا اعطاءه أية قوة تنفيذية في مجلس الأمن تخوفاً من السابقة الليبية وانطلاقاً من مبدأ «عدم التدخل في الشؤون الداخلية» للدول.
لذلك لم يجرِ الإقرار بجنيف 1 إلا عرَضاً بمناسبة صدور القرار 2118 الخاص بالأسلحة الكيماوية في سورية الذي أشار في فقرته الـ16 إلى تأييده، وذلك بعد 16 شهراً تقريباً من ولادته، فيما جنيف 2 لم ينعقد إلا بسبب ضغط الروس على النظام والأميركيين على المعارضة، في حين كانت تعليمات النظام أن يحضر لكن ألاَّ يفاوض.
والثالث أنه مقابل ايران داعمة للنظام بشكلٍ كامل على رغم صياغة «أكثر إتقاناً وبراعة» لموقفها «ايام روحاني»، هناك الأتراك الذين تبنوا «الإخوان» في كل مكان بما في ذلك سورية، و «أعتقد أن قطر اتخذت موقفاً مشابها».
ليست مشكلة السردية في النوايا. فالسيد الابراهيمي يقول صراحة إن الحرب التي يجدها مهولة والتي شهدت خلال مهمته مقتل 138000 سوري واستخدام النظام السلاح الكيماوي وهجرة ونزوح ملايين السوريين ودماراً شاملاً، لا تتوقف الا «بالاتفاق على قيام سورية الجديدة، أي سورية المختلفة عما كانت عليه في ظل حافظ الأسد وبشار الأسد». إنما المشكلة في النظرة الكلاسيكية إلى دور الوسيط والعلاقات الدولية والقانون الدولي والمنظمة الأممية.
والحال أن الخط السردي الميَّال إلى تحميل مسؤوليات متوازية تقريباً لكلٍ من النظام والمعارضة يناقضه في الأساس اعترافه وتقديره أن الأسد «لم يفكر يوماً واحداً في التنازل»، وأنه «لم يشك يوماً واحداً في أنه سينتصر في النهاية». فمثل هذا الاستنتاج يعني أن كل وساطة من دون استخدام الإكراه السياسي والاقتصادي و/او العسكري لإبعاده عن قيادة المرحلة الانتقالية كانت ولا تزال تعني وقتاً مضافاً لتطبيق سياسة «الحرب الشاملة» على الثورة وحواضنها بدعمٍ نشيط من المحور الايراني الروسي، في حين يبدو واضحاً أنها المصدر الأساس لاستحالة الحلول ولتحولها عبر التدخل العسكري العلني لحزب الله – الذي يقول انه فاجأه ويشكل تغييراً في دوره- إلى مادة استقطابٍ مذهبي خطير يتجاوز حدود سورية.
وتبدو كلاسيكية المقاربة واضحة في موقفه خلال المقابلة من حدثين. فيقول: «سئلت عن رأيي باستخدام القوة؟ فأجبت أنني أقول دائماً إن استخدام القوة يجب أن يتم بتفويض من مجلس الأمن وهذا ما يقوله ميثاق الأمم المتحدة»، ويتابع: «رأيي ليس مؤثراً لكنني أتحدث عن القانون الدولي». أما الثاني فهو في اعتباره قرار وزراء الخارجية العرب بإعطاء مقعد سورية في الجامعة العربية إلى المعارضة لحين حل الأزمة وإجراء انتخابات قد «زاد التعقيدات ولم يكن ضرورياً»، و «أتساءل عن مدى توافقه مع ميثاق الجامعة العربية».
والحال أن هذه الكلاسيكية المنتمية إلى «المدرسة الواقعية» في العلاقات الدولية إذ تشدِّد على أولوية المصلحة الدولتية وتوازن القوى كحاجز ضد الفوضى، لم تعُد صالحة كنظرية بعد نهاية الحرب الباردة والقطبية الثنائية ونشوء فاعلين غير دولتيين بدءاً بالمنظمات غير الحكومية وانتهاء بالقوى المسلحة غير الدولتية والحروب غير المتناظرة، وكذلك بعد انبثاق مفاهيم جديدة نتيجة خبرات الحروب داخل الدول وبين المجموعات العابرة للحدود ليس أقلها «مبدأ مسؤولية الحماية». وهو الأمر المُلزم بتغييرٍ في القانون الدولي يعيد تحديد الشرعية ويحميها من التحول إلى مجرَّد اداة لاستبداد السلطة. فضمن مسؤوليات الدولة حماية مواطنيها، ولكن اذا كانت هي من تهددهم فإن مسؤولية حمايتهم ومنعها من مواصلة التهديد تنتقل الى المجتمع الدولي. كما أن إطارات وقواعد شغل الأمم المتحدة – ومجلس الأمن خصوصاً – والمنظمات الإقليمية لا يمكن أن تستمر كانعكاس فوتوغرافي لنسبة القوى ولآليات عمل وحق نقضٍ موروثة من مرحلة المُعسكريْن وحروب قطبيْها بالوكالة. فلا بد لتطبيق مبدأ مسؤولية الحماية من الانتقال الى مفهوم «الديبلوماسية الاكراهية» المتضمنة لقدرٍ متدرج من التهديد بالقوة، وفي حالات معينة استخدامها بشكل محدود، وإلا كانت كل وساطة أممية تغطية لحالة الحرب التي يشنها الطرف والمحور الأقوى ولتهديد حياة الجماعات والأفراد وتدمير البنى الحيوية وتحفيز انتشار التطرف بصرف النظر عن ميزات الوسيط وخبرته وطيب نواياه.
ومثال تصاعد التأزم السوري على رغم وسيطين وجنيفيْن وتفرعه الخطير نتيجة عدم ايقاف حرب النظام الشاملة على الثورة وجمهورها هو الأوضح في استحالة نفع الوساطات وفق القواعد السابقة.
* كاتب لبناني
الحياة