“الإخبارية السورية” داخل الرقة.. النظام يمهد لاستيلائه على المدينة!/ وليد بركسية
كثّف إعلام النظام السوري، ضخه حول مدينة الرقة طوال الأسبوع الماضي، لكن ذلك الضخ، بأسلوبه القائم على تقديم معلومات أساسية معروفة ومتداولة بكثرة حول تعامل “داعش” مع المدنيين، أعطت انطباعاً بأن الإعلام الرسمي، بعد سنوات من التجاهل للمدينة، لا يكتشف فقط وجود تنظيم “داعش” هناك بل يفاجأ بذلك الوجود أيضاً، ثم يحاول مفاجأة جمهوره ومباغتته، معتقداً أنه جمهور غافل عن كل المعلومات التي يقوم هو بالتعتيم عليها، وكأن الزمن متوقف في الثمانيينات قبل عصر المعلومات المفتوحة.
وأعادت قناة “الإخبارية السورية” عرض فيلم وثائقي قدمته قبل أسبوعين فقط، حول تجنيد “داعش” للأطفال بعنوان “أبناء الدم”، وهو فيلم كان يجب أن تقدمه القناة، لو كانت فعلاً “عيناً على الواقع” كما تدعي في شعاراتها، عند أول ظهور لـ “أشبال الخلافة” في الإصدار الداعشي “فضرب الرقاب” في أيار/مايو 2015، بموازاة مقالات وتقارير ومواد في بقية الوسائل الرسمية.
أما أبرز ما قدمه إعلام النظام في هذا الإطار، فهو حلقة من برنامج “خارج العاصمة” على شاشة “الإخبارية” أيضاً، والذي صورته من داخل الرقة! الصدمة المصاحبة لوقع تلك الجملة للمرة الأولى يختفي عندما تردف القناة أنها دخلت فقط الحدود الإدارية لمحافظة الرقة فقط، وتحديداً إلى أطراف مدينة تل أبيض، التي تسيطر عليها قوات “سوريا الديموقراطية” المدعومة من الولايات المتحدة. وليس المدينة نفسها كما كانت تدعي القناة طوال أسبوع في إعلاناتها عن الحلقة في مواقع التواصل.
ورغم أن القناة لا تدخل مدينة الرقة، إلا أنها تمهد ببرنامجها من أجل دخول جيش النظام إليها، عبر إشارات مختلفة، حيث تأتي الحلقة بالتزامن مع حديث لرئيس النظام بشار الأسد مع وكالات أنباء روسية، تحدث فيه عن أن جيشه المدعوم من روسيا وإيران وميليشيات طائفية كان يستعد للبدء بمعركة الرقة لولا أنه انشغل بمعارك جديدة فتحتها المعارضة في جبهات أخرى مثل حماة، وحديثه عن الصعوبات التي تواجه معركة الرقة أيضاً من ناحية الضخ العقائدي الذي يقوم به التنظيم هناك، وهو تلميح شديد العمومية بأن المدنيين هناك يتأثرون بالفكر الداعشي ويتحولون إلى إرهابيين عبر غسل أدمغتهم، وبالطبع في ذلك تبرير مسبق لسقوط أعداد كبيرة من المدنيين في معركة الرقة، مثلما هو متوقع، سواء شارك النظام وروسيا فيها أم لم يشاركا.
ومن الأمور المثيرة للسخرية في “رحلة الإخبارية إلى الرقة”، أنّ أكثر من نصف الحلقة مأخوذٌ من “ألإعلام المغرض”، أي لقاءات وتقارير وأفلام وثائقية سابقة قدمتها قنوات يصنفها النظام السورية بالمعادية، مثل “إم بي سي” و”فرانس 24″ و”سي إن إن”، بينما المقاطع “الحصرية” التي تقدمها الإخبارية فلا تتعدى بضع لقاءات في السيارة قرب مدينة تل أبيض، حيث توجد لافتات طرقية تشير إلى مدينة الرقة، يتم تقريب الكاميرا منها وتثبيث الصورة مع موسيقا دراماتيكية وكأن القناة تكتشف أمراً مبهراً أو كوكباً جديداً صالحاً للحياة البشرية.
وفي حديثه مع الاستوديوهات في دمشق، يهمل مراسل القناة محمد الصغير كل تلك الجوانب الهزلية في الحلقة، ويتحدث عن نجاح “الإخبارية” في الحصول على سبق صحافي بكشف جرائم التنظيم من اغتصاب النساء والأطفال، والتي لا يتحدث عنها أحد، بما في ذلك المنظمات الإنسانية، بسبب الطبيعة العشائرية للمنطقة التي يفضل أهلها مداراة تلك الفضائح، خاصة أن معظمها انتهاكات جنسية، ولكن “الإخبارية” تنجح في ذلك بسبب قدرتها على التواصل والإقناع ولأنها “عين على الواقع”! وفي تلك المبالغات استخفاف لا يصدق بعقل الجمهور الذي يفترض أنه يتابع ذلك المضمون الذي يحول قضية هامة مثل حقوق الإنسان في الرقة إلى خطاب بهذا القدر من التفاهة.
والحال أن بقية المقاطع والمقابلات في سياق الحلقة، قد تكون صحيحة وقد تكون تمثيلية عطفاً على تاريخ النظام الطويل في الفبركة والضخ الدعائي المرتبط بالوقت وليس القضايا نفسها، فالمقابلات كلها مصورة في استوديوهات ومن دون الكشف عن هوية أصحابها، كما أن المراسل نفسه يقوم بتوجيه اللقاء وتلقين المتحدثين ما يقولونه بشكل شديد الوضوح مع رداءة المونتاج التي لا تتدخل لتحسين ذلك الخلل.
يتعزز كل ذلك مع حقيقة أن الحلقة لا تتحدث عن “داعش” بشكل مباشر، بل تشير إلى أن “الجماعات الإرهابية المسلحة” هي من يقوم بكل الفظائع ضد الإنسانية، علماً أن تلك هي التسمية التي يطلقها النظام على كافة المعارضين له، ثم إتباع صفة “الدواعش” بهم من حين إلى آخر، وبذلك تحقق القناة فكرة تعميم الداعشية على المعارضة، والعكس، مع أن “داعش” تقنياً جماعة خارجية استفادت من الوضع المتوتر في سوريا للتمدد، مع حقيقة أنها نشأت أصلاً في العراق نتيجة التوترات الطائفية بين الأغلبية الشيعية والأقليات السنية والكردية، والتمييز ضد السنة من قبل حكومة بغداد التي يقودها سياسيون تابعون لإيران، حسب دراسة حديثة لـ”معهد دراسات الحرب” في واشنطن.
تبقى كل تلك التفاصيل قليلة الأهمية مقارنة بتوقيت كل هذا الضخ الإعلامي حول الرقة، بعد سنوات من إهمال المدينة والمحافظة ككل إثر سقوطها بيد “داعش” مطلع العام 2014. حيث مازال توقيت إطلاق معركة تحرير الرقة من قبل قوات “سوريا الديموقراطية” ذات الغالبية الكردية، المدعومة من واشنطن، غير محدد، تتحدث تقارير غربية، توردها صحف كبرى مثل “فايننشال تايمز” و”فورين بوليسي” نقلاً عن مراكز بحثية متخصصة، عن عدم وجود استجابة أميركية بعد لمرحلة ما بعد “داعش” في المدينة، لعدم رغبة واشنطن في البقاء في سوريا لفترة طويلة حتى مع دعمها العسكري المحدود حالياً للأكراد.
وتفيد تلك التقارير أنه لا توجد أي قوة ترغب في الحصول على المدينة، فقوات “سوريا الديموقراطية” ترى في السيطرة على الرقة فخاً لكونها مدينة عربية ذات غالبية سنية، بشكل يخالف المكون الكردي الطاغي على القوات، بموازاة تقزيم روسيا للدور التركي وقوات المعارضة المعتدلة المدعومة من أنقرة، مع وجود سيناريو مفترض، بأن قوات الأسد وروسيا تستعد للاستفادة من ذلك الوضع الفوضوي كي تستعيد سيطرتها على المدينة من جديد من دون بذل مجهود كبير لذلك.
ورغم أن الضربة الصاروخية الأميركية ضد النظام قبل أسابيع تجعل هذا السيناريو خياراً مستبعداً، إلا أنه قد يفسر شيئاً من الضخ الإعلامي المفاجئ من النظام حول الرقة في هذا التوقيت والذي يدمجه بدعوات جديدة للتجنيد “دفاعاً عن أعراض النساء والأطفال هناك”، والذي يوازي ضخاً مماثلاً في الخطاب الدبلوماسي، كإشارات متتالية يعلن فيها النظام رغبته في العودة إلى المدينة أيضاً، ولو بشكل أحادي الجانب، وذلك بعد أيام من ظهور اقتراحات بديلة تتم دراستها في وزارة الدفاع الأميركية “بنتاغون” وتتداولها صحف عالمية، حول ضرورة إشراك الولايات المتحدة لحلفائها الإقليميين مثل الأردن لإدارة الحكم في الرقة ما بعد “داعش” وتحويل المدينة إلى مركز توازن ثقيل للمعارضة بعد فقدان حلب.
المدن