صفحات العالم

الإخفاق الدولي لن ينقذ النظام في سورية


د. بشير موسى نافع

أوحى سلوك الجامعة العربية والمعارضة السورية في الأمم المتحدة وكأن قراراً لمجلس الأمن الدولي، يؤيد المبادرة العربية حول سورية، يمكن أن يوفر مخرجاً من الأزمة ويفتح الطريق نحو انتقال عقلاني (وليس بالضرورة سلساً أو سلمياً كلية) للسلطة. وقد ساهم العناد الروسي في المباحثات حول صيغة القرار في تعزيز الشعور بالأهمية القصوى للقرار الدولي. الحقيقة، أن تمرير القرار في صيغته الأصلية كان سيمثل نصراً ملموساً للثورة السورية. ولكن صدور القرار أو عدم صدوره ما كان سيحسم الصراع المحتدم بين الشعب وقواه السياسية، من جهة، ونظام الحكم وحلفائه، من جهة أخرى، بهذه الصورة أو تلك. ميزان القوة الأهم في الثورة السورية لم يزل داخل سورية ذاتها، ما يتعلق بقدرة وتماسك وإرادة النظام وآلته العسكرية، وبتصميم وقدرة واستمرارية الحركة الشعبية المعارضة، وإلى جانبها وحدات وكتائب الجيش الحر.

ثمة عدد من الأسباب التي دفعت روسيا إلى الاعتراض على مشروع القرار العربي المقدم لمجلس الأمن، يتعلق بعضها بروسيا نفسها، وبعضها الآخر بالعلاقات الروسية الأمريكية. روسيا، كما اتضح في الأسابيع الأخيرة، تمر بمرحلة جديدة من ناحية وضع السلطة وعلاقتها بشعبها. فبعد أن نظر إليه طوال أكثر من عقد باعتباره منقذ روسيا ومخلصها، يبدو رئيس الحكومة، الرئيس السابق، فلاديمير بوتين، وكأنه تجاوز حدود احتمال الشعب الروسي وأخذ يواجه معارضة ملموسة. ليس من المتوقع أن تستطيع المعارضة، غير الموحدة، بالرغم من قدرتها على حشد عشرات الألوف في مظاهراتها الاحتجاجية، منع إعادة انتخاب بوتين رئيساً للجمهورية. ولكن حركة المعارضة ستجعل صورة الرئيس السابق/ المقبل تبدو أضعف من الصورة التي اعتادها العالم له، بغض النظر عن مقدرات القوة الحقيقية لروسيا. في مثل هذه اللحظة، يرى بوتين أن من الضروري التوكيد على صلابة قيادته وسيطرته الحاسمة على القرار الروسي، سيما في مجال العلاقات الخارجية. هذه ليست اللحظة المناسبة لتقديم تنازلات للإدارة الأمريكية.

من جهة ثانية، ترغب موسكو في وضع حد للتوجه المتزايد في العلاقات الدولية لاستخدام الأمم المتحدة اداة للتدخل في تقرير مستقبل الأنظمة الحاكمة في دول العالم المختلفة. ولم يكن خافياً، بالرغم من الغموض اللغوي والتعديلات التي أدخلت على مشروع القرار، أن المبادرة العربية تفتح الباب لتغيير نظام الحكم السوري؛ والمبادرة هي ركيزة مشروع القرار المقدم لمجلس الأمن. تفويض الرئيس الأسد صلاحياته لنائبه، وانطلاق عملية سياسية تعددية وشفافة، على خلفية من ثورة شعبية تغطي معظم البلاد السورية، يعني بالضرورة أن أركان نظام الحكم سرعان ما ستنهار، الواحد منها تلو الآخر. السؤال الهام من وجهة النظر الروسية يتعلق بما ان كان الموقف الدولي من سورية، الذي يأتي بعد حلقات تدافع حرجة بين روسيا والولايات المتحدة في البلقان والعراق وإفريقيا (بتفاوت مواقف القوى الغربية الأخرى)، سيصبح نهجاً في نظام العلاقات الدولية. ماذا لو أن حركة المعارضة الروسية اشتدت درجة واتسعت نطاقاً، واضطرت دولة الرئيس بوتين لقمع هذه الحركة بوسائل ما؟ أليس من الممكن أن يصبح مصير الحكم في روسيا، هي الأخرى، مادة للتداول في مجلس الأمن؟ وربما كان هذا القلق على وجه الخصوص، هو أيضاً ما دفع إلى المعارضة الصينية لمشروع القرار؛ إضافة إلى ضرورات التحالف الصيني الروسي في المحافل الدولية.

بيد أن قضايا العلاقات الروسية الأمريكية لا تقل إلحاحاً. هناك، مثلاً، الموقف الروسي في شمال القوقاز، سيما في جورجيا، التي أصبحت، حتى بسيادتها المنقوصة على أرضها، موقعاً متقدماً للولايات المتحدة في واحد من أهم الممرات الاستراتيجية إلى روسيا وأكثرها خطراً. وهناك، بالطبع، ملف حائط الصواريخ المضادة للصواريخ، الذي تواصل إدارة إوباما نشره في وسط وشرق أوروبا، والذي حقق مكسباً استراتيجياً ملموساً عندما وافقت تركيا على إقامة قاعدة متقدمة للإنذار المبكر على أرضها، ترتبط بحائط الصواريخ. ويضاف إلى هذين ملف لا يثير كثيراً من الجدل، بالرغم من أهميته البالغة بالنسبة لروسيا، وهو ذلك الخاص بعملية التحديث التقني للبنية الروسية، وتتطلب تعاوناً غربياً في مجال نقل التكنولوجيا وفي مجال الاستثمارات الغربية في روسيا، سيما أن التقديرات تشير إلى حاجة روسيا لعدة مئات من المليارات للاستثمار في مشاريع التحديث المأمولة، في وقت تعاني الدول الغربية بأجمعها من صعوبات مالية واقتصادية بالغة. ليس من الواضح بالتأكيد مدى السعي الروسي إلى مقايضة الموقف من سورية؛ ولكن الواضح أن الأمريكيين لا ينظرون إلى سورية باعتبارها ورقة مقايضة. ما يراه الأمريكيون أن روسيا ليست بالقوة التي كانها الاتحاد السوفياتي وأن سياسة المقايضات في العلاقة مع الروس لا يجب أن تستمر، والموقف من سورية، فوق ذلك، هو موقف تبلور في الدائرة العربية الخاصة وليس في واشنطن.

ولكن ماذا لو أن روسيا صوتت في النهاية لصالح مشروع القرار العربي. صدور القرار الدولي كان سيشكل ضغطاً جديداً على النظام، ويعني بالضرورة مواكبة الإجماع الدولي الإجماع العربي السابق في المطالبة بتنحي الرئيس الأسد وبدء عملية انتقال السلطة. كما إن القرار كان سيوفر رافعة معنوية جديدة للحركة الشعبية وقوى المعارضة. ولكن النظام ما كان سينصاع لقرار مجلس الأمن، كما هو لم يستجب للمبادرة العربية. النظام السوري، في هذه المرحلة على الأقل، لن ينصاع لقرارات عربية أو دولية. السرعة التي سقط بها النظامان التونسي والمصري، أدت إلى ولادة تصورات خاطئة لطبيعة وسلوك أنظمة الاستبداد العربية. العناد الذي يظهره النظام السوري في مواجهته مع الحركة الشعبية، وسعيه الدموي للبقاء، ليس ظاهرة سورية خاصة. كل أنظمة الاستبداد العربية، بما في ذلك تونس ومصر، لديها الاستعداد للقتال إلى النهاية دفاعاً عن وجودها. والرئيسان بن علي ومبارك لم يتنحيا لمجرد استمرار حركة الاحتجاج الشعبية لعدة أسابيع. الواقع أن بن علي ومبارك وصلا إلى لحظة بات فيها من الواضح أن حياتهما، وحياة أسرتيهما، أصبحت مهددة. وهذا ما دفع بن علي للخروج من البلاد، ظاناً أنه سفر لن يطول، ومبارك إلى مغادرة القاهرة إلى شرم الشيخ، ظاناً أن عوناً غيبياً ما سيؤدي في النهاية إلى إنقاذ نظامه. بكلمة أخرى، لم يختلف الاستبدادان التونسي والمصري عن نظيرهما السوري. ما اختلف هو طبيعة وديناميات الحركة الشعبية، وتطور مجريات الثورة.

النظام في سورية سيقاتل دفاعاً عن وجوده لأن الرهان أكبر مما يعتقد في أكثر الدوائر معارضة لهذا النظام. بعد أكثر من أربعين عاماً من الحكم، يشمل الرهان مقاليد السلطة والسيطرة على واحدة من أكثر دول المشرق أهمية وتأثيراً؛ ثروات هائلة، وفرتها مقاليد الحكم والسلطة؛ مقدرات طائفية، ولد اعتقاد خلال السنوات القليلة الماضية أن يوماً لن يأتي لتمس فيه؛ وجرائم فادحة ارتكبت بحق السوريين طوال العقود الماضية وتورطت فيها شريحة واسعة من الطبقة الحاكمة وقادة أجهزتها. حسابات مثل هذه لن تجعل التخلي عن مواقع الحكم خياراً سهلاً أو سريعاً. بيد أن النظام سيذهب في النهاية؛ سيذهب حتى إن لم يعد ممكناً تبلور إجماع دولي في أي وقت آخر في المستقبل. السؤال الذي ينبغي البدء به ليس ما إن كانت هناك طريقة مثلى لنهاية الأزمة، ولكن ما إن كان بإمكان نظام في مثل وضع النظام السوري أن يستمر في الحكم. بعد ما يقارب العام على اندلاع الحركة الشعبية المناهضة للنظام، وعجز الأخير عن إخمادها؛ بعد أن اتسع نطاق الثورة ليغطي كل أنحاء سورية؛ بعد كل هذا العدد من القتلى، بحيث لم تعد هناك من قرية أو حي بدون خسائر في الأرواح، طالت أحياناً أسراً بأكملها؛ بعد اعتقال عشرات الآلاف وتعرض أكثريتهم لتعذيب وحشي، وقاتل في بعض الاحيان؛ بعد أن التحقت بالحراك الثورة كافة الطبقات الاجتماعية تقريباً؛ وبعد أن وصلت عزلة النظام العربية والدولية ما وصلت إليه؛ هل لم يزل من الممكن لهذا النظام أن يستمر في حكم سورية؟ الإجابة الصحيحة على هذا السؤال هي فقط من يفتح الباب للسؤال التالي حول ما إن كانت هناك طريقة أفضل أو أكثر أمناً لحل الأزمة.

ربما سيؤدي الفشل الدولي إلى بعض من تعزيز ثقة النظام بنفسه، أو على الأصح شعوره بأنه محصن، ولو إلى حين، ضد عواقب سياسات القمع الفاشي التي يتبعها. كما قد يعزز من اندفاعة حلفاء النظام الإقليميين لمساعدته والدفاع عن استمراره. ولكن الفشل الدولي قد يضاعف أيضاً من شعور قطاعات أكبر من السوريين بأن لا سبيل للتخلص من هذا النظام سوى طريق القوة ومواجهة العنف بالعنف. يعرف الجميع، بل أصبح من المبتذل تكرار الإشارة إلى أهمية سورية البالغة في محيطها الإقليمي.

وربما يعمل الفيتو الروسي ـ الأمريكي على تصعيد حدة الصراع على سورية، في حين كان يمكن لروسيا أن تضمن مصالحها بالوقوف إلى جانب الشعب والتعاون والتفاهم مع قوى المعارضة السورية. وإن لجأت بعض الدول العربية وبعض القوى الغربية إلى مد يد العون للقوات السورية المنشقة، وإلى جماعات المعارضة الأخرى، يكون الفيتو الروسي الصيني المشترك قد دفع سورية أكثر وأكثر نحو حرب داخلية باهظة التكاليف، بينما كان ادعاء محاصرة العنف ومنع تأججه المبرر الأبرز في خطاب الدبلوماسيين الروس.

عشية فشل مجلس الأمن الدولي في الوصل إلى اتفاق حول مشروع القرار العربي، اندلعت موجة هائلة من المظاهرات، عمت كافة المدن السورية. في كفر نبل، رفع أحد المتظاهرين لافتة صغيرة، كتب عليها: ‘ليقف العالم كله ضدنا. لن نهتم، ما دامت حمص في صفنا’. هذا هو الميزان الحقيقي للقوة في سورية اليوم.

‘ كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى