الإصلاح والسلاح
طيب تيزيني
تأتي ضرورة الإصلاح في كل بلدان العالم، كلما تراكمت المشكلات والمعضلات والأزمات في بلد ما، دون أن تقوم السلطة العليا في هذا الأخير بما يلزم من الجهود للإجابة عن تلك المشكلات…إلخ. ونلاحظ أن مبادرة التصدي لهذه الأخيرة تتم عبر رؤيتين اثنتين رئيسيتين. أما الأولى منهما فتفصح عن نفسها، حين يلاحظ المعنيون ملامح أولية لتلك الضرورة ويعملون على التصدي لها بمنهج علمي مناسب وبالأدوات الصحيحة المتحدرة منه. ويكون الأمر، بذلك، قد نال قسطه من الأهمية النظرية، وما يطابقها من خطوات عملية تطبيقية. أما الرؤية الثانية فقد نلاحظها في البلدان المتَّسم نظامها السياسي بالديكتاتورية والاستفراد بالسلطة وبالثروة وغيرهما، من مثل الاستفراد بالإعلام. إذ ها هنا، يكون حق التعبير عن آراء الكتاب والباحثين والسياسيين وخصوصاً فيما يتصل بالمعارضين، أمراً غير مُتاح، بل محظوراً تحت طائلة الاعتقال أو التجريد من العمل، مع فتح أبواب الفساد والإفساد أمام مجموعات وشرائح معينة من المجتمع من طرف، وتكميم أفواه المستقيمين والشرفاء من طرف آخر.
وثمة ملاحظة مهمة تتمثل في ما يقترب من القانون الاجتماعي، الذي يتحدد في أنه كلما زاد طغيان السلطة حفاظاً على ما يعتبره الحكام حقوقاً شرعية لهم في الاستمرار بالحكم إلى ما شاء الله من ولايات حكم متلاحقة، تزداد وتتعاظم عملية تحدي أولئك للشعب، مِمّا يدفع هؤلاء إلى توسيع رقعة المناصرين لهم من المنتفعين من “فضائل” النظام القائم. ومع الانتباه إلى هذه الملاحظة، يلاحظ كذلك نشوء احتكاكات تأخذ بالاتساع بين السلطة والشعب، فتسوء “ثقافة الوعي” والمعارضات السرية، التي تحاول التصدي لتلك السلطة، سواء بمطالب أولية كالخبز والكرامة والعمل، أو بما هو أكثر. وفي حالات كثيرة، تأخذ السلطة موقف العنف، وتنفتح أبواب السجون. وضمن هذه الآلية القائمة بين الفريقين، تزداد مطالب الناس بحيث تصل إلى “أفق مسدود”، خصوصاً حين يضع هؤلاء شعار “إسقاط النظام” في مقدمة الأولويات المطلوبة.
لقد قامت منذ ثلاثة عقود حركات اجتماعية شعبية في عدد من البلدان العربية مثل مصر وتونس، فكان رد الحكام، في حينه، التشهير بمطالب الناس “الغلابا” -وهو تعبير يطلق على الطبقات الدنيا، ومن يدخل في حقلهم من المضطهدين والمظلومين والمذلين في مصر- فخرجوا إلى الشارع، فما كان من السادات إلا أن وجَّه إليهم التهمة الشنيعة: انتفاضة الحرامية!
وإذا كانت تلك الانتفاضة قد مرت وسقطت تحت وطأة العنف الساداتي، فإن ما أخذ يحدث في العالم العربي تحت عنوان “ثورة الشباب”، أتى وربما شرعياً لـ”انتفاضة الحرامية”، ولكن بحامل اجتماعي جديد هو الشباب، وبأدوات وصلت إلى العنف المتمثل بالمواجهة المسلحة، لـ”الغلابا”، وكذلك بأهداف أعظم من أهداف هؤلاء: لقد رفع النظام السياسي الأمني عنفه إلى استخدام أسلحة حربية، منها الطيران الحربي. وكان هذا تعبيراً إجرامياً فظاً عن مطامع الحكام، التي قاربت القول بأنهم لن يغادروا ما عشوا في أحضانه من حكم شمولي استفرادي إقصائي، على مدى عقود.
إن ما كان محتملاً أن يجد حلاً له، وهو الإصلاح، ظهر بمثابته حُلماً دونه السماء أو الموت. وهذا ما يعني دخول البلدان العربية المعنية وربما في غيرها كذلك، فوضى هائلة تفتح الأبواب كلها أمام “الخارج” عبر تدخل استعماري جديد. نعم، إن ممارسة الاستبداد الشمولي إنما هو استجلاب للأغراب. وبئس ذلك من أحوال مدمرة، تفتقد الشرعية والوطنية، وتضعنا أمام العار وجهاً لوجه!
الاتحاد