الاتجار بالسوريات -مقالات مختارة-
مَن يحكم لبنان؟/ حسام عيتاني
بعد الانتخابات النيابية في 1972، أصدر الباحث الراحل إيليا حريق كتاباً حمل عنوان «من يحكم لبنان» استند فيه إلى نتائج تلك الانتخابات ليرسم لوحة علاقات القرابة وتداخلها مع شبكات المصالح المالية والاقتصادية، مُظهراً بذلك ضيق القاعدة الاجتماعية للنظام السياسي اللبناني.
أثار الكتاب يومها ضجة، لانطوائه على تحذير من محاذير وخيمة تنتظر اللبنانيين إذا لم يبادروا إلى إصلاح نظامهم، خصوصاً أن انتخابات 1972 (وقبلها انتخابات فرعية عام 1970) أظهرت استحالة تغيير ديموقراطي يعكس تطور المجتمع اللبناني وتبدله بين الاستقلال ومطلع السبعينات.
مأساة استعباد عشرات الفتيات السوريات جنسياً تعيد، بعد 44 سنة على كتاب إيليا حريق، طرح السؤال عمّن يحكم لبنان، ذلك أن مشاعر الغضب والاستياء الشديد والمُحق التي عبّر عنها عدد من الكتاب والناشطين السوريين بعد نشر أنباء الفضيحة- الكارثة، تقابلها عند عدد غير قليل من اللبنانيين مشاعر اليأس واللاجدوى. تشي التقارير الإعلامية بشبهة حصول الشبكة المذكورة على حماية أمنية وسياسية رفيعة المستوى، على ما ألمح النائب وليد جنبلاط في تغريدة له على «تويتر» ووفق ما يُفهم من شهادات السيدات ضحايا الاسترقاق.
في ظل مناخ التفلت من العقاب وثقافة الاستقواء بالسلاح وتفكك الدولة والمجتمع والخروج الجماعي على القانون وضحالة محاولات التصدي للمناخ والتفكك والخروج المذكورين، يتسم ظهور من يستثمر في الخراب السوري بالعادية، مثَله مثَل الديدان والحشرات المرافقة لتحلل الجثث وتعفنها. وها هي جثة الدولة اللبنانية مرمية على قارعة الطريق تفوح منها الروائح النتنة من دون أن يقترب أحد لرفعها.
ولا يستطيع اللبنانيون، كجماعات ونخب، ادعاء البراءة من مآس مثل مأساة المستعبدات السوريات، حيث فضلوا غض النظر عمّا يعانيه اللاجئون والركون إلى ملاذاتهم الطائفية الآمنة بدل السعي إلى تحطيمها لإنقاذ المجتمع (وليس الدولة التي انتهت وما من أمل جدي في إحيائها في الظروف الراهنة). وتقول التقارير الإعلامية إن شبكة الاسترقاق المكتشفة ليست سوى رأس جبل الجليد الغاطس في المياه اللبنانية- السورية وفي أهوال حروب تمزق هذه المنطقة. وما النهاية التي آل إليها الحراك المدني على خلفية أزمة النفايات، غير استعراض للحدود المتواضعة لقدرات المجتمع اللبناني المعطوب على إصلاح ذاته وسلطاته السياسية.
وإذا عُطفت الحالة المزرية لأجهزة الدولة اللبنانية على أوضاع اللاجئين على الأزمة الاقتصادية الخانقة، إلى جانب حملات التحريض العنصرية التي يديرها ويشرف عليها «كبار القوم»، يصحّ توقع استمرار الجرائم التي تشمل مئات وربما آلاف المتورطين على ما ظهر في قضية شبكة المعاملتين. غني عن البيان هنا أن «الصورة والسمعة» اللبنانيتين قد اضمحلتا من زمن بعيد، وأننا نراقب دمار بلدنا بعيون مفتوحة وأيدٍ تكبلها سلاسل التواطؤ الطائفي– السياسي.
من يحكم لبنان؟ إذا اردنا الإصغاء إلى ضحايا شبكة الاسترقاق، لقلنا إن وحوشاً من غير طبيعة البشر هي ما أو من يدير هذا البلد ويستغله حتى نقطة الدم الأخيرة، وإن الوسائل المقترحة من جماعات الهيمنة السياسية لن تؤدي إلا إلى تحسينات مجتزأة تعيد إنتاج الكارثة بعد أعوام قليلة.
في 1975، أنتج إغلاق طريق الإصلاح حرباً أهلية. في 2016 يُعاد إغلاق الطريق.
الحياة
طبيب معتقل جونيه/ روجيه عوطة
ما أن تجر الفتاة من سوريا الى معتقل جونيه، أي مهاجع مشروع “شي موريس” و”مربع سيلفر”، حتى يجري تعذيبها وإكراهها على تسليم جسدها والاستسلام به للزبون وقبله لرأس استغلالها، عمار ر، وهو واحد من رؤوس شركة إخضاع النساء والإتجار بهن، إلى جانب كل من موريس ج. وعلي ح.ز وإيلي أ. وغيرهم. وكان على الفتاة المسجونة أن تظل في قيد إذلالها من الساعة الثالثة بعد الظهر حتى الساعة السادسة صباحاً، وعندما ينتهي دوامها، تُربط وتُجلد، وفي بعض الأوقات، تُصلب، أو يُقطع لسانها، أو يُحرق جلدها، وذلك، بغاية معاقبتها على عدم التزامها بـ”قوانين” المعتقل “الصارمة”.
وبما أن سجنها، والاستثمار في جسدها، يعرضها للحمل، فما كانت تبارح حبسها سوى إلى عيادات الأطباء، وخصوصاً عيادة الدكتور رياض ب.ع، الذي أشارت الأخبار إلى مسؤوليته عن مئتي عملية إجهاض، نفّذها، وعلى طول أربع سنوات، بحق معتقلات جونيه، وذلك، بمساعدة ممرضته. إلا أن هذا الطبيب لا يزال طليق العمل والكلام، مثلما أنه أطل في مقابلة على شاشة “أل.بي.سي” نافياً التهمة عنه.
على أن الاستماع إلى طبيب المعتقل ينبّه إلى أنه عندما يبعد الشبهة عنه سرعان ما يقربها منه ويقع فيها، بحيث أن نبرته حيال استفهامات ندى أندراوس عزيز تنطوي على النكران المرفق بالتصلف. فالطبيب يتحدث كما لو أنه غير مدرك فظاعة ما ارتكبت يداه ومشارطه وآلاته وأدويته، إذ كان، بحسبه، يؤدي مهنته فقط لا غير، وذلك، بدون أي تدخل في شؤون هذه “المريضة” أو تلك، وهذا، على الرغم من كون شؤونهن غالباً ما تظهر بقسوتها وفظاظتها على ملامحن وجلودهن. لكن، الطبيب لا يهمه ما يبدو عليهن من علامات غير العلامات التي تجعله يقوم بدوره حيال أجسادهن وفيها، ومفاده ارجاعهن إلى المعتقل مثلما كنّ، أي إعادة ترويضهن على أساس الأوضاع السابقة على حملهن بخروجهن من حجرات القتل المولج لهن.
بكل برودة، كان الطبيب ينزع الأجنة من أجساد المعتقلات، متعاملاً مع أرحامهن كأنها منشأ “المرض”، الذي يعني، هنا، أي جسم قد ينتج التوقف عن استغلالهن. بكل فتور، كان يوزع على تلك الأجساد حبوبه وعقاقيره كي ينهيها عن رغبتها، ولو كانت مؤلفة من جرح والتهاب ونزيف، في التخلص من شقائها. فعلى الأجساد، بالنسبة إليه وإلى أصحاب المعتقل، أن تكون ملذ الزبائن، ولذلك، لا بد من احكام القبض على أعضائها، استئصال نزوعها الى النجاة من الألم الدائم، لكي تستمر عنوةً في انتاج متع غيرها.
فوّض القيمون على معتقل جونيه الطبيب بالتحكيم في الصراع بين جسد السجينة وقابليته للحياة، بالتالي، فصل بين الجسد من جهة، وميله إلى مغادرة خصوعه التام من جهة أخرى، أعاد ترتيب الأول كموضوع للشهوة، وأهلك الثاني كداء. على هذا النحو، أعطى معنى آخر لمهنته: إجتثاث علة الحياة من الجسد. إلا أن هذا المعنى يتعدى الإجتثاث إلى عملية أخطر بكثير، ففي إثر إجبار الجسد على التحول إلى ملذ ثابت، ونتيجة حبسه في وظيفته الجنسية الخالصة، يصبح ممنوعاً من تصريف حيويته، من مبارحة جموده العنيف، ولهذا السبب، يضحى الموت مفره الوحيد، مخرجه الى قدرته.
كان الطبيب يدخل أدواته في أجساد المعتقلات أو يجرّعها أدويته، لم يكن يعيق هربها إلى الحياة فحسب، بل كان يدفعها إلى الموت كسبيل أخير لها، سبيل، كانت حين تصل بأمراضها اليه، يحرمها منه. معنى آخر لمهنة جعل الموت منفذ الجسد، ثم سدّ هذا المنفذ، فيمتلئ الجسد بموته، بحبسه، وإما، ينتحر، أو يُقتل. لقد حظي الطبيب بموقعه في دورة الاعتقال، موقع يخوله أن يمنع الأجساد عن موتها، لا كي تحيا، بل كي تبقى أسيرة معتقليها، باعتبارها مصدر مالهم، وأسيرة زبائنهم، باعتبارها مصدر لذتهم.
في تصريحه المتسلط بإنكاره لقناة “أل.بي.سي”، قال الطبيب أن شريكه، عماد ر، لم يكن يصطحب المعتقلات إلى عيادته واحدةً واحدة، بل يأتي بهن مجموعات. وهو كان ينظر إليهن على المنوال نفسه، كما لو أنه يطبب قطيعاً من البهائم: “طلعي لشوف، أعطيها دوا، إنتي شو بكي، اعملها صورة، رحم نظيف”. فنظرة الطبيب إلى المعتقلات هي نظرة استهانة، ومردها، أنه يحتكر وسائل شفائهن، مثلما أنه لا يجد بين أجسادهن أي إختلاف، بل إنه “يعالجها” جميعها دفعةً واحدة، بالطريقة ذاتها: ينظر إليها، يلغيها، فيحضر فوقها، ويمنعها من مرضها ومن سلامتها، قبل أن يردها إلى سجنها.
يا لعار المهنة التي يمارسها طبيب ينظر إلى الأجساد كي يفحص صحة معتقلها، يا لعار نقابته التي تنظر كي لا ترى، فتنتظر التحقيق معه!
المدن
فزاعة التوطين والاستعباد الجنسي/ الياس خوري
كنا نتوقع من وزير شؤون مكافحة توطين اللاجئين السوريين في لبنان السيد جبران باسيل أن يرفع صوته احتجاجا على «توطين» 75 فتاة سورية كرقيق جنسي في منطقة جونية- المعاملتين، ويمارس عليهن أشنع أنواع التعذيب وامتهان الكرامة الإنسانية.
قلت إننا كنا نتوقع على سبيل المجاز، فلقد تفوق الانهيار الأخلاقي الذي تعيشه المؤسسة الحاكمة اللبنانية على كل توقعاتنا، بحيث أننا لم نعد نُفاجأ بأي شيء. نعيش على فتات الموت، نستنشق النفايات، نأكل الطعام الفاسد، ونتحول إلى شهود على وضع يتسيّد فيه مجموعة من القوادين والسفهاء، من أمثال ثلاثي ملهيي «شي موريس» و«سيلفر». لاحظوا أن أعضاء الشبكة لا يميزون بين أبناء الطوائف والجنسيات. فالمافيا الجنسية التي أدارت عملية استعباد الفتيات السوريات وسجنهن وجلدهن وامتهان أجسادهن وأرواحهن، لا تبالي بالانتماءات المذهبية، ولا وجود فيها لأي تمييز ضد عضوها السوري، إنها مافيا منفتحة ولا تبالي بأي انتماء. المبدأ الوحيد الذي يحكم أعمالها هو الربح والجشع والعطش إلى التسلط والتمتع بإذلال الناس. وهي في ذلك تشبه مافيات النفايات والقمح المسرطن والأدوية وإلى آخر ما يطفو على سطح هذا الانحطاط الذي يحاصر بلادنا من كل جانب.
75 فتاة سورية تمّ «توطينهن» في السراديب، وتحولن إلى عبدات جنسيات. يُجلدن بالسياط، يعملن بلا مقابل، يجري إجهاضهن، يُحبسن في أقبية مظلمة، ويُجبرن على التزين والوقوف في الصف كالذبائح. توطين لا يزعج أحداً من أسياد هذه اللحظة المنقلبة، توطين يفتح شهية الكلام على رفض التوطين وينعش الاقتصاد المتهالك، ويدوس على الناس.
الكلمة الوحيدة التي تتبادر إلى الذهن هي الفضيحة. لكن فضيحتنا الكبرى هي أن كلمة فضيحة لم تعد تعني شيئاً، أو لم تعد تثير فينا أية مشاعر. «فضيحة، ثم ماذا»؟ لا شيء. صارت الفضيحة تحتمي بفضيحة أكبر منها، بحيث بتنا لا نعرف ماذا تعني كلمة فضيحة. صرنا شهودا للذل، هذا هو المدخل كي نتحول نحن أيضا إلى عبيد. فالذي يسكت عن هذا الاستعباد الشامل ليس فقط عبدا بالمعنى المجازي، بل يمهّد لعبوديته الفعلية الآتية.
أنقذتنا هذه المجموعة من الفتيات- الضحايا من فزاعة التوطين، لترسم أمامنا مرآتنا الجديدة، التي تُظهر صورتنا بصفتنا شهود زور إن لم نكن متواطئين ومشاركين في وضع الأغلال على أعناقنا.
تفاصيل ما روته الفتيات يثير الذعر والرعب، لكنه ليس سوى بداية الحكاية. نحن أمام خمسة وسبعين مأساة. فتيات يُخدعن ويُسحقن لأنهن غريبات وفقيرات، ويجري تحويل أجسادهن إلى نعوش لأرواحهن. يتم تصيدهن بوسائل شتى، فالشبكة الإجرامية التي بدأت عملها عام 2011، قبيل اندلاع الثورة السورية بمآسيها الكبرى، وجدت في الإنهيار السوري، وفي تشريد شعب كامل على أيدي الجلادين في نظام آل الأسد، فرصتها الذهبية لتوسيع إجرامها، وإيصاله إلى حدود خيالية.
سراديب وسجون وعتمة، فتيات يعملن بلا أجر، ويُجلدن ويجوّعن وليس عليهن سوى الخضوع. سجن من طبيعة بدائية تنام فيه العبدات، ثم يؤخذن إلى نور الأضواء الخافتة، حيث يجري إطفاء الرغبة في الحياة عبر إغراقها في جنس مبتذل وهمجي مصحوب بالتعذيب. كأننا في فيلم عن زمن غابر، لكنه زمننا. الزمن ليس غابرا بل ثقافتنا وقيمنا وأخلاقنا هي الغابرات. آلة وحشية بنت دولتها في أحشاء دولتنا فصارت هذه الدولة المصنوعة من فتات الكلمات وفتات الأخلاق والتعريص هي من يحكمنا، ويجعلنا مستكينين، وحين نثور نجد جدرانا تسحقنا، ونكتشف أننا أسرى بنى طائفية تفتت بلادنا جاعلة منها مرتعا للصوص.
(أعتذر عن استخدام كلمة تعريص، لكنني وجدتها ضرورية هنا كي يستقيم المعنى. والحق أن من يجب أن يعتذر ويُحاسب هم المعرّصون الذين أوصلونا إلى هذا المنحدر. أما فعل عرّص الذي نشتق منه كلمة تعريص، فقد شرحه استاذنا أنيس فريحة في كتابه « معجم الألفاظ العامية» بهذه العبارات الوجيزة: « عرّص الرجل: زنى وفجر فهو عرصة أي فاجر أثيم ويقولون معرّص»).
نجاح مجموعة صغيرة من الفتيات في الهرب من الجحيم هو الذي كشف سراً لم يكن مستورا. لا شك أن الأجهزة الأمنية كانت تعرف أن الاستعباد الجنسي يمارس في مرابع هذا الساحل الجميل الذي افترسته النفايات، وأن هذه الممارسات كانت تجد من يغطيها ويتواطأ معها في قلب جهاز الدولة، وأن حكايات الفتيات الروسيات والأوكرانيات المخطوفات أو شبه المخطوفات كانت معروفة ويتندر بها فصحاء الذكورة والسياحة الجنسية.
كيف نفسّر واقعة وجود السيد موريس جعجع في السجن بتهمة تسهيل الدعارة، بينما أقبية مربعه «شي موريس» تعمل كالعادة، وتعج بالسجينات اللواتي لم يتوقفن عن العمل كرقيق جنسي يوما واحدا؟
كيف نفسّر المُفَسّر؟
هذه هي أحجية الانحطاط.
كيف نفسّر ونتفذلك ونتغطى بالقانون وصعوبات التحقيق كي نستر عارنا؟
لم يعد هناك ما يغطي، لقد تمزقت كل الستائر، وصار واقعنا عارياً ولا يثير سوى الاشمئزاز.
هؤلاء السوريات اللواتي تلطخت أجسادهن وأعمارهن أشرف وأنقى وأطهر منا جميـــــعا، إنهن مرآتنا التي تنتصب في وجوهنا كي تقول إنه آن الأوان كي ننظر ونرى. نظرة واحدة في هذه المرآة تكفي كي تكشف كل شيء، ونكون وجها لوجه أمام هذا العار الذي صار عارنا جميعا، لأننا عاجزون أو مستنكفون عن مواجهته بالطريقة التي تليق به.
القدس العربي
عن العبودية الجنسية في لبنان وأوراق بنما/ زيـاد مـاجد
سنوات طويلة من السجن والعبودية الجنسية والعنف الضاري والإجهاض للنساء المُستعبدات والمُغتصبات في أقبية “شي موريس” و”سيلفر”، وفي عيادة “طبّية”، جرى الكشف عنها قبل أيّام في لبنان. وحسابات مصرفية وشركات وهمية وواجهات لمسؤولين حكوميين ورياضيّين ومجرمي حرب ورجال أعمال من عشرات الدول يجمعهم الكسب غير المشروع والتمنّع عن دفع الضرائب وتهريب الثروات عبر بنما، يجري حالياً نشر تفاصيلها تباعاً في أكبر جهد تحقيقي يشهده تاريخ الصحافة تحت مسمّى “أوراق بنما”.
هكذا يُستهلّ شهر نيسان بتذكيرنا بالوحشية المقيمة في لبنان، وبتواطئ سياسيّين وأمنيّين مع عصابة من الخاطفين لنساء سوريّات، المعذّبين إياهن ضرباً وتأجيراً لزبائن ثم تعريضاً لعمليات الإجهاض على يد طبيب شريك للعصابة (وممرّضته).
وهكذا أيضاً، يُستهلّ هذا الشهر بنشر صحفٍ ملايينَ الوثائق حول أخلاق الآلاف من أصحاب الثروات الطائلة عالمياً، ومن بينهم بعض الشديدي الشبه بأوغاد العصابة اللبنانية، النافذين في أكثر من بلد والمدّعين في أحيان كثيرة نزاهةً واستقامة وتفوّقاً عنصرياً.
وإذا تذكّرنا أن حجم اقتصاد شبكات العبودية الجنسية وأنشطة الدعارة، من آسيا الى إفريقيا ومن الأميركيّتين الى أوروبا فأوقيانيا، يبلغ في أقلّ تقدير 186 مليار دولار سنوياً (بحسب إحصائيات “هافوكسكوب”)، وأن بين المليارات هذه ما يذهب الى مافيات خطف واغتصاب عابرة للحدود، وقفنا على حجم عالمية الظاهرة اللبنانية المُعلن عنها مؤخّراً وارتباطها بمنظومة علاقات استغلال تقوم على سحق القوي للضعفاء، النساء المُختطَفات والمُنتهَكات في هذه الحالة، ثمّ – ولِمَ لا – إيداع بعض مداخيل عمليات السحق هذه في حسابات لشركات وهمية في مصارف الجنّات الضريبية الكثيرة.
قد يُقال إن ليس في الأمر جِدّة. فلا الاستغلال الجنسي والعبودية طارئان، ولا فضائح حسابات بنما حديثة العهد، ولا تهرّب نجوم فنّيين أو رياضيّين ومعهم بعض السياسيين من دول ديمقراطية أو من أنظمة ديكتاتورية من تسديد ضرائب أو تدقيق حسابات مثار دهشة. فالجشع والفساد لا حدود أو مواطن لهما، وثمة مثالب متأتّية عنهما في معظم مجتمعات العالم. وهذا بالطبع صحيح.
وقد يُقال أيضاً إن “العالم” القابل منذ عقود بمظالم هنا وهناك، والمتعامل مع أنظمة يقودها مجرمون أو فاسدون، والصامت في زمن النقل الإعلامي المباشر عن المجازر والقتل، والمستعدّ لنقل لاجئين وفارّين من الموت بالبواخر والشاحنات لمنعهم من دخول بعض بلدانه، والداعي شعوباً ثائرة على القمع للقبول بقامعيها، والتارك أطفالاً يموتون لنقص “الأسبيرين”، هو “عالم” من البديهي أن تستمرّ فيه عبودية نساء فقيرات أو تعدّي أقوياء على قوانين وتبييضهم أموالاً. وهذا بدوره صحيح.
لكن ما هو صحيح أيضاً أننا في نفس “العالم” هذا، نجد أبهى القيم الإنسانية وألمع الانجازات العلمية والمعرفية، ونجد رجالاً ونساءً لم يستسلموا للمظالم أو يصمتوا حين لم تمسّهم مباشرةً. بعضهم يثير اليوم ما تعرّضت له النساء السوريّات، وبعضهم الآخر عمل على مدى أشهر ليُثير فضيحة “أوراق بنما” وليكشف فاسدين بالأرقام والوثائق سعياً لردعهم.
كراهية “العالم” والعدمية تجاهه ليستا إذاً الردّ على جوانب انحطاطه المتضخّمة، ولو أنهما في عنفهما تشبهانها وتستمدانّ بعض المشروعية منها. التمسّك بالحياة والدفاع عن حقوق ناسها هما الردّ الأمضى والأكثر شجاعة، من جونية وضهر البيدر الى دمشق، ومن هناك حتى بنما وجزر الكاريبي…
موقع لبنان ناو
ماذا عن حُماة تجار البشر؟/مهند الحاج علي
قبل نحو سنتين، نشرت قناة “أم تي في” التلفزيونية اللبنانية تقريراً عن مراكز الدعارة والاستعباد في لبنان، احتوت شهادة لافتة لراهبة تعمل في مستشفى مجاور لملاهٍ ليلية بينها “شي موريس”، مقر نشاطات شبكة الإتجار بالبشر لأكثر من ١٠ سنوات، وحيث اغتُصبت وعُنّفت وأُجهضت عشرات الفتيات الضحايا، بحسب بيان قوى الأمن اللبنانية أخيراً. في التقرير التلفزيوني، وصفت “الأخت ماري لويزا” على الهواء، و”برسم السلطات المعنية”، وضعاً “لا يُحتمل”، إذ قالت إن “صراخ الفتيات يعلو في الفجر، وأحياناً يحدث إطلاق نار، ويُنقل جرحى إلى المستشفى في منتصف الليل”.
التقرير الذي تحدث عن مجمع كولور سيتي” و”شي موريس”، كان مملوءاً بعبارات تشي بنفوذ مالكي هذه المؤسسات، وعجز السلطات أمامهم، مثل “دخول أي سلطة رسمية ممنوع وغير مرحب فيه” و”يحرسها أشخاص مسلحون، ولا أحد يعرف من يدخل أو يخرج” و”السلطة الوحيدة التي وافقت على مرافقتنا، هي عنصران من بلدية جونية. وهما ليسا قادرين على الدخول”. إلا أن معد التقرير تمكن من الدخول إلى “شي موريس” والتقى فتيات مُستعبدات فيه، ووضع الشريط “برسم القوى المعنية” التي لم تتحرك لإغلاق “شي موريس” وكشف الشبكة، سوى بعد سنتين من بث التقرير. ولا يتعلق الأمر بشكاوى إلى الشرطة، أو تقرير إخباري أهملته السلطات المعنية، بل أيضاً بمصادرة أراضٍ وممتلكات، وعدم تنفيذ أحكام قضائية على مدى سنوات، بحسب “أم تي في”. يعني أن السلطات اللبنانية لم تُهمل شكاوى المواطنين والإعلام فحسب، بل لم تنفذ أحكاماً قضائية نتيجة “نفوذ” ما لا نعرف خيوطه ولا تفاصيله بعد.
لكن هل شريط “أم تي في” هو أول مؤشر أهملته السلطات اللبنانية لنشاطات غير شرعية في “شي موريس” وغيره؟ عام 2008، أُلقيت قُنبلة يدوية على “شي موريس”، بحسب أخبار نشرتها وسائل إعلام لبنانية عن الحادثة. ألم تكن قنبلة يدوية كفيلة بفتح عيون قوى الأمن على العبودية داخل الملهى؟ وإن كانت القنبلة غير كافية، فماذا عن تقرير “أم تي في” بعدها بسنوات؟
ألا تستحق مثل هذه القضية النظر في الإهمال السياسي والأمني؟ ربما تكون القنبلة غير كافية، لكن أن يبث تلفزيون لبناني تقريراً عن حراس مسلحين، وشهادة راهبة عن صراخ فتيات فجراً، دون أن تتحرك السلطات، ففي ذلك جريمة وشراكة، لا تقصيراً فحسب. كم بلاغاً إلى الشرطة أرسلت هذه الراهبة وغيرها قبل الظهور في الإعلام؟ وما عدد الدعاوى القضائية المرفوعة ضد الملاهي، ومن يُقصر في تطبيق الأحكام؟ الواقع أن بحثاً بسيطاً عن “شي موريس” على وسائل التواصل، يُظهر إشارات إلى أن المكان معروف بين الشباب، بدليل أن أحداً كتب على “فايسبوك” عام ٢٠٠٧، داعياً سيدة سورية تُجادله في شأن لبناني، إلى الذهاب إلى “شي موريس” حيث هناك عمل لها!
توزع الأدوار في استعباد الفتيات والإتجار بهن بين السوري ع.ر واللبنانيين ع.ح.ز، وصاحب الملهى م.ج، يشي بتحالف مصالح في العصابة، بين من يُحضر الفتيات ويؤمن حماية المكان ومن يُشغله. بالتأكيد هناك تسرب للأموال إما على شكل رشى للمسؤولين أو الأمنيين ممن يُوفرون الحماية منذ عشر سنوات، أو حتى شراكة مالية مُضمرة معهم. مثل هذه الشراكة، لو كشفتها التحقيقات، قد تُفسّر توقيت الكشف عن العصابة. لماذا اليوم؟
هل الأمر مرتبط باختفاء “السياح” الأجانب، بما يعنيه من تقصير الشبكة في سداد الدفعات المالية المتوجبة عليها، وبالتالي انهيار شراكتها مع أصحاب النفوذ؟ من يحمي الملاهي الأخرى المشتبه بها من المداهمات والتفتيش منذ سنوات طويلة؟
في انتظار هذه الإجابات، يبقى الكشف عن شبكة الإتجار بالبشر، محدوداً، ويُخشى أن يكون عملاً تأديبياً من النافذين لشبكات أخرى ما زالت تعمل بحماية نافذين، بأن الاعتقال مصير من لا يدفع.
الفيديو: https://www.youtube.com/watch?v=H5HUeXqOQAQ
المدن
كرامة لبنان والاتجار الجنسي بالسوريّات
رأي القدس
انفجرت في وقت متقارب أخبار عديدة قادمة من لبنان كان أسوأها وقعاً اكتشاف شبكة اتجار جنسيّ بفتيات معظمهن سوريات تعرّضن لإجبارهن على ممارسة البغاء، للاستعباد والاغتصاب والاجهاض القسريّ والتعذيب النفسيّ والجسديّ والتشويه.
كشفت التحقيقات الأولية عن وجود الشبكة المذكورة في مناطق لبنانية مختلفة وهي تستدرج سوريّات بزعم تأمين عمل لهن، وتلمّست العمليات الأمنية التي أدت إلى تحرير 75 فتاة واعتقال بعض أعضاء الشبكة معالم سوق لبنانيّ واسع للاستعباد والاتجار الجنسيّ بالفتيات السوريّات يقف خلفه رجال أعمال وعصابات إجراميّة متكاملة فيها العناصر المسؤولة عن الخداع وتأمين استمرار العنصر البشريّ، ورجال الأعمال من أصحاب الملاهي والفنادق وبيوت الليل، والزبانية المسؤولون عن التعذيب والتشويه والتدمير النفسيّ للفتيات، والحرّاس (ذكوراً وإناثاً)، بل إن للشبكة فرعا طبّيا اعترف طبيب فيها بإجراء نحو 200 عملية إجهاض.
كل ذلك يعني أن الفتيات المحرّرات يشكّلن نسبة فحسب من مجمل عدد ضحايا العبودية الجنسية في لبنان، وإذا أضفنا التأكيدات المتكررة في التغطيات الإعلامية للحدث أن شخصيّات لبنانية متنفّذة، أمنية وسياسية، تساهم في حماية الشبكة الإجرامية، نستنتج بسهولة أن المخفيّ في شأن هذه القضية ما زال كبيرا.
نسيء كثيراً لقضية الفتيات السوريّات لو فصلنا معاناتهن الفظيعة التي تجمع، بشكل شيطانيّ، بين أشكال الاستغلال الجنسيّ، مع عناصر أخرى انجدلت في عمق المأساة الكبرى التي يعيشها الشعب السوريّ، من التعذيب الجسدي الذي يذكرنا بضحايا النظام السوري الذين بلغوا ما يقارب 20 ألف سجين توفّوا تحت التعذيب، إلى تحطيم الكيان النفسيّ لفتيات (بينهن قاصرات) بكافة أشكال الضغط الإجراميّ، وهو معادل مختصر لتحطيم الكيان النفسيّ للشعب السوريّ عبر ممارسات مشابهة تريد كسر روح الحرّية لإعادة تدوير نظام الاستبداد.
الجانب اللبناني من المسألة تحضر فيه أيضاً عناصر معقّدة، فالمصادر الأمنية تقول إن رأس الشبكة لبناني يدعى حسن زعيتر، وأن «مديرها التنفيذيّ» سوريّ يدعى عماد الريحاني، ويقوم الأخير بدور الجلاد الجسديّ والنفسي الذي يعذّب الضحايا ويصورّهن لعرضها على الفتيات لإرهابهن وإخضاعهن، وهو ما يذكّرنا بالشراكة القائمة بين النظام السوريّ وحلفائه اللبنانيين، في تقاسمهما للأدوار، ليس في المعارك العسكرية والدبلوماسية والإعلامية فحسب بل في شبكة واسعة من المصالح والمنافع ومناطق النفوذ (منها حقول المخدرات الهائلة في سهل البقاع) والتي يضيع فيها الفارق بين السياسة والإجرام.
مثير للجدل، على خلفيّة هذا الموضوع، ما أثارته قضية الكاريكاتير حول العلم اللبناني، والتي تشير إلى تحوّل الضغط السعودي على بيئة «حزب الله» الحاضنة إلى موضوع تأجيج للكراهية بين اللبنانيين عموما والمملكة، ورغم أن مهمة رسام الكاريكاتير الطبيعية هي السخرية من كل شيء والتقاط المفارقات الفاضحة، وأن المجتمعات المعافاة نفسياً تتقبل السخرية من زعمائها ورموزها، بما فيها العلم، فإن الضخّ في هذه التوتّرات الجارية جعل تلك السخرية من العلم اللبناني أمراً يثير حفيظة أطراف لبنانية عديدة، رغم أن السعودية ليست هي التي تهدد هويّة البلد، بل الحزب الذي يربط نفسه بمصالح إيران البعيدة جغرافيا وثقافيا عن لبنان.
الأحرى أن يسائل الحادثان المذكوران مفهوم الكرامة الحقيقية في لبنان، والذي تباهى على أقرانه من البلدان على مدار عقود بمساحة حريّات التعبير وحقوق الإنسان واستنكرت أحزابه، كافّة، أوضاع الاستبداد العربية وإهانة البشر واستعبادهم وتحقيرهم، فإذا بلبنان ينقلب على نفسه ويزاود في تحقيره واستعباده وإهانته للكرامة البشرية على كل من كان ينتقدهم.
الكرامة البشرية لا يمكن أن تنفصل عن حب الوطن والتغنّي بعلمه وأرزته والحفاظ على دولته.
القدس العربي
الاتجار بالسوريات وتعميق الجرح/ سمير الزبن
إذا كانت الحرب التي شنها النظام السوري على شعبه قد قتلت وشرّدت ملايينَ، وحولت ملايينَ أخرى إلى معوقين، فهي على الرغم من ذلك، لا تشكل سوى قمة جبل الجليد في المأساة السورية الكبرى التي لا تنتهي. تداعيات الحروب غالباً ما تكون أكثر مأساوية من الحدث المركزي نفسه، على هامش الحرب تنشأ ظروفٌ لا تقل وحشيةً عن الحرب نفسها. هذا ما يقوله الكشف في لبنان عن أكبر شبكة اتجار بالسوريات، وتعذيبهن وإجبارهن على ممارسة الدعارة. ولم يتورّع تجار البشر عن غرز سكينٍ إضافيةٍ في الجسد السوري الجريح بألف طعنةٍ وطعنة، وإذا كانت هذه المأساة قد تم اكتشافها، فكم من المآسي التي ما زالت في الخفاء؟ من تجارة البشر، إلى تجارة الأعضاء، إلى تجّار الموت في البحار، إلى اللصوص الذين ينتظرون الهاربين على الطرق لسلبهم أموالهم.. إلى عددٍ هائلٍ من الجرائم التي يتفتق عنها العقل الإجرامي المريض، للتنكيل بالضحايا والمحتاجين. لذلك، سننتظر في السنوات المقبلة، لنكتشف حجم الجريمة التي ارتكبت داخل سورية في قتل المعتقلين والمعتقلات وتعذيبهم، واغتصاب النساء على الحواجز والمناطق المقتحمة ونهبها. هذا في الداخل السوري، والكثيرون ممن نجوا في الهروب من الحرب، كانوا ضحايا، مرة أخرى، لتجار البشر واللصوص. وأعرف قصصاً في كل مكانٍ وجد فيه السوريون، من دول الجوار، التي تكاد مآسي اللاجئين فيها لا تنتهي، مرورا بالدول الأبعد، في مصر وليبيا وحتى السودان، وصولاً إلى مآسٍ في البرازيل وتايلاند وماليزيا وغيرها. إضافة إلى مآسي اللجوء الأوروبي، على الرغم من أن هؤلاء يعتبرون الأكثر حظاً من غيرهم بين الضحايا السوريين، حتى تكاد المأساة السورية تغطي العالم كله تقريباً.
للأسف، ليس الضحايا أرقاماً إحصائية، إنهم بشر من لحم ودم، قصص مدمية للقلب، قصص لا تنتهي، وليس هناك من أفقٍ لوضع حدٍّ لها.
“للأسف، لا يُدين هذا النوع من الجرائم المجرمين وحدهم، والنظام السياسي الذي وقعت في ظله فحسب، بل يديننا نحن الذين نعجز عن فعل شيء للضحايا أيضاً”
وقع جريمة الاتجار بالسوريات في لبنان عليّ أكبر من وقع جرائم النظام نفسه، فلا يمكنني فهم مستوى انحطاط المجرم الذي يطعن المطعون أصلاً، والتوغل في ظلم المظلومين، فالتفاصيل المروّعة التي روتها المحرّرات من سجن العبودية تقشعر لها الأبدان. ولا تختلف عن التعذيب الذي تُمارسه فروع المخابرات السورية على السوريين، وكأن الشبكة امتدادٌ لهذه الفروع الأمنية التي توغلت في دم السوريين وإذلالهم.
رحلة الآلام التي خبرتها 74 فتاة سورية في هذا الجحيم متشابهة، تتراوح أعمارهن بين 16 عاماً، وأكبرهن لا تتجاوز السابعة والعشرين. لم تقتصر الجريمة على خداع الفتيات، وجلبهن من سورية وتشغيلهم في الدعارة بالقوة (حسب رواية جريدة “السفير” اللبنانية 2/4) وعبر سجنهن في أقبية فندقَي “سيلفر” و”شيه موريس” في المعاملتين في بيروت، بل أيضاً على تعنيفهن وتعذيبهن، وصولاً إلى قطع لسان إحداهن، والتسبب بوفاة أكثر من واحدة، وإجراء أكثر من مائتي عملية إجهاض، وفق اعترافات الطبيب “ر.ع” لقوى الأمن الداخلي، ووفق ما أكدت أكثر من ضحية.
وأفادت رنا (إحدى المحرّرات) بأنها كانت، ورفيقاتها، يُرغَمن على ممارسة الجنس مع عشرة إلى عشرين رجلاً لكل امرأة منهن في الليلة الواحدة. يبدأ العمل منذ العاشرة صباحاً وإلى السادسة من فجر اليوم الثاني. وغالباً ما تفرض عليهن ممارسات “مقرفة” وفق ما وصفنها، وكذلك ممارسة الجنس الجماعي.
الأسوأ في الموضوع أن أكثر من ضحيةٍ أوقفهن الأمن اللبناني، لا بوصفهن ضحايا، بل بوصفهن متهمات. وقال بعضهن إن أحد الأجهزة الأمنية أوقفهن سابقاً، ولكن كان يتم الإفراج عنهن، عبر تدخل جهات متنفذة، مما يسهّل لمشغليهن إعادة استغلالهن، إلى درجة قلن فيها إنهن ظنن “أن لا دولة في لبنان تحميهن”.
بدأت عملية القبض على الشبكة، وفق مصادر قوى الأمن الداخلي اللبناني، بعدما تمكنت أربع فتيات من الفرار، يوم الجمعة العظيمة عند الطوائف الكاثوليكية، “حيث كان يوم عطلة، ولا زبائن في الفندق”. كانت هناك حارسة واحدة، فاتفقت ثماني فتيات على تقييدها، ومن ثم أخذن مفتاح الباب، وتمكَّنَّ من الهروب، والتبليغ عن الشبكة.
ما يزيد في تعميق الجرح، تفاصيل تتعلق بقبض أزواج بعض الفتيات وأهلهن مبالغ مالية، لقاء تشغيلهم وتسليمهن إلى مشغليهم.
لا يمكن القبول بفكرة أنه كلما ازداد البشر ضعفاً تصبح حياتهم عرضةً لمزيدٍ من الانتهاك، على الرغم من أن هذا ما يحصل في الواقع الحقيقي كل يوم. في كل القيم الإنسانية، كلما ازدد الإنسان ضعفاً احتاج إلى حماية أكبر، لا يحتاجها الأقوياء. لكن هذه المعادلة، مهما جرى انتهاكها والدوس عليها، هي أساس القيم الإنسانية السليمة. لذلك، لا يجب المرور على هذه الجريمة بوصفها تفصيلاً من المأساة السورية الكبرى، وبذلك، يتم دفنها ودفن آلام ضحاياها معها. وليس غريباً أن تمر مرور الكرام، إذا كان أحد المتنفذين في السلطة في لبنان طرفاً فيها. فالذي أخرج ميشيل سماحة من السجن، وقد قُبض عليه وهو يريد تفجير لبنان، لن يوقف أي متنفذٍ متورطٍ، وضحاياها من السوريات الأكثر ضعفاً في العالم اليوم.
إنها جريمة كبرى، ولا يجب محاسبة الأشخاص الذين قاموا بها فحسب، بل محاسبة النظام السياسي الذي يمكن أن ترتكب جرائم كبرى، تحت سمعه وبصره أيضا.
للأسف، لا يُدين هذا النوع من الجرائم المجرمين وحدهم، والنظام السياسي الذي وقعت في ظله فحسب، بل يديننا نحن الذين نعجز عن فعل شيء للضحايا أيضاً. إنهن زوجاتنا وبناتنا وأخواتنا وأمهاتنا، نعجز عن حمايتهن من الوصول إلى أيدي المجرمين مرّة، ونعجز عن حمايتهن بعد معرفتنا الجحيم الذي خبرنه مرّة أخرى. هذا إذا لم نعاقبهن بالنبذ الاجتماعي والقتل بداعي الشرف. هكذا، يتعامل الضعفاء مع ضحاياهم، بمعاقبة الضحية بدل معاقبة الجلاد. لذلك، كل يوم يغدو السؤال أكثر إلحاحاً: من يحمي الضحية السورية من جلاديها الكثيرين؟
العربي الجديد
سوريات يهربن من الحرب إلى عذاب “الرقيق الأبيض” بلبنان
العربي الجديد – الأناضول
مثل كل النساء في العالم كن يحلمن بحياة رغدة، بعضهن فتيات في سن الزهور كن ينتظرن فرسان أحلامهن، بينما لا تفارق الأماني الوردية لليلة العمر مخيّلتهن، وأخريات كن يعشن حياة رغيدة مع أزواجهن. أحلام بدّدها واقع مؤلم استيقظن عليه عندما اندلعت الحرب في بلدهن، سورية، في العام 2011، ليفترق الأحباب، ويذهب دفء العائلة، ويصبح أقصى أمل لهن توفير لقمة العيش، ويد رحيمة تساعدهن على الانتقال بعيدًا عن دمار الحرب، والخوف الذي بات يعشعش في كل مكان هناك.
وبينما كن يكابدن كل هذه الأوجاع، التي تفوق طاقة البشر، انبثق أمامهن شعاع أمل، حيث فرصة للانتقال إلى لبنان، والحياة الرحبة بعيدا عن جحيم الحرب، قبل أن ينقلب هذا الشعاع إلى عتمة حالكة، بعد أن وجدن أنفسهن في قبضة أناس قست قلوبهم، لم يعد فيها للرحمة مكان، كانوا في انتظار فرائسهم والزج بها إلى جحيم “العبودية الجنسية”.
إنها قصة 75 امرأة وفتاة، غالبيتهن من الجنسية السورية، استُدرجن إلى لبنان بذريعة قيامهن بأعمال منزلية في البيوت أو غيرها، وفور وصولهن، كانت جوازاتهن وأوراقهن الثبوتية تُصادر، وكنّ يُخبرن أنهن مسجونات من لحظة وصولهن، وأنهن مُجبَرات على العمل في “الدعارة” تحت تهديد القتل، حسب ما أفادت بعض الضحايا لمراسل “الأناضول”.
ووفق معلومات أجهزة الأمن اللبنانية، التي كشفت عن إلقاء القبض على عناصر هذه الشبكة، يوم الجمعة الماضي، فإنّ “رأسها” هو لبناني يُدعى علي حسن زعيتر، بينما مُديرها سوري يُدعى عماد الريحاني، والأخير كان مختصًا في استدراج النساء والفتيات والإيقاع بهن.
وكانت هذه الشبكة تستخدم ملاهٍ ليلية وفنادق وشققاً مفروشة، منها ملهى “شي موريس” وملهى “سيلفر” في منطقة جونية بمحافظة جبل لبنان، شمال بيروت، اللذين يديرهما اللبناني موريس جعجع، وهو موقوف منذ 3 أشهر بتهمة “تسهيل الدعارة”.
ورغم مرور بضعة أيام على كشف هذه الشبكة، التي تتاجر بالبشر، لا زال صداها، وتفاصليها المؤلمة، تشغل الرأي العام اللبناني حتى هذه اللحظة. وكالة “الأناضول” التقت 4 من هؤلاء الفتيات المحررات من أسر الشبكة، فروين قصصا مرعبة واجهتهن طيلة مدة السجن القصري، الذي امتد بالنسبة لبعضهن لأكثر من عامين ونصف العام.
أقدم أسيرة لدى الشبكة
القصة الأولى لسالي (27 عاما من حمص، وسط غربي سورية)، التي تعد أقدم أسيرة لدى الشبكة، حيث تم احتجازها لمدة عامين ونصف العام، وهي فترة تصفها بأنها “الأكثر مرارة” في حياتها، وتقول: “لقد نسيت لون الشمس، ومشهد الشارع والسيارات. جئت إلى لبنان بعدما فقدت عائلتي في الحرب الدائرة بسورية”.
وتضيف: “تعرّفت إلى عماد الريحاوي خلال سهرة في بيروت على أساس قصة حب وزواج”، خاصة أنه سوري، وابن بلدها، ويريد أن يساعدها. وتتابع: “بعد لقاءات عدة، اصطحبني إلى ملهى (شي موريس) على أساس شغل، وقال لي: إنه يحتاج ثلاثة أشهر حتى ينتهي من تجهيز منزله، وبعدها نتزوج”. وتشير إلى أن لحظات السعادة التي شعرت بها، انتهت بعدما وصلت إلى ملهى “شي موريس”. وتصف ذلك قائلة: “بعدما أوصلني إلى المكان، ورأيت الفتيات بملابس فاضحة جدا، وأخبرني عن طبيعة العمل، رفضت، فطلب مني أن أبقى ليلة واحدة على أن أرحل في اليوم التالي، صرت أبكي، ولم أتقبّل أن يلمسني أحد”.
وتتابع: “في اليوم التالي جمعت أمتعتي لأرحل، فوجدت الأبواب موصدة في وجهي، وقالت لي إحدى الحارسات إن عليّ أن آخذ إذنًا من عماد للمغادرة. وعندما حضر إلى المكان ضربني كفّين (صفعها مرتين)، لم أستطع بعدهما أن أسمع بأذني لأيام عدة”.
وتابعت، وهي تبكي: “أخذني إلى الصالون (مكان في الملهى)، ووضعني على الكرسي، وأحضر الكرباج وأنزل الفتيات، وسألهن بصوت عالٍ: (ماذا أفعل بالتي تفكر في الرحيل؟)، فشعرت بالخوف، أنا التي لم أتلق صفعة واحدة في حياتي”.
وتواصل قصتها قائلة: “بعد 15 يوما، لم أستطع التحمّل، وقلت له أنني أريد أن أرحل. وضعني على الكرسي، وضربني بالكرباج، ولم يتوقف حتى قلت له إنني لا أريد الرحيل أبداً”، لافتة إلى أن الضرب بالكرباج يكون على القدمين حتى لا يثير الأمر شكوك الزبون. وتستطرد: “إذا لم نعد قادرين على العمل من جراء الضرب، يعطينا عطلة يومين، أما إذا كنا قادرين على الحركة، فنعود إلى العمل. أحيانا يسألنا الزبون عن سبب هذه الآثار (الناتجة عن الضرب)، فنقول له: وقعنا على الدرج”.
وحول الأيام الأخيرة لها مع الشبكة وكيف تمكن الأمن اللبناني من كشفها، تقول سالي: “قررنا الهروب، أنا وسبع بنات أخريات، لكن فكرنا أنه إن توجهنا إلى الأمن العام سيجدنا (تقصد: عماد)”. وتضيف: “في النهاية حزمنا أمرنا وبدانا بالفعل في الهرب، لكن عماد قبض على ثلاث منّا، فيما تمكنت الخمس الباقيات من الهروب”.
وتتابع قصتها: “كنت ممّن لم يتمكّنَّ من الهرب. وعندما قبض عليّ عماد ربطني في السرير، وراح يجلدني، لكنه لم يكثر من عدد الجلدات، لأن نهار السبت (26 مارس/ آذار) يكون لدينا عمل كثير. تركني وهو يهددني بأنه سيكمل ضربي نهار الإثنين، لكن تمت المداهمة الأحد”.
أكثر ألما
أما حكاية رنا (24 عاما عاما من السويداء، جنوبي سورية)، فتعد أصعب من سابقتها؛ إذ بدأت فصولها مع جحيم الحرب في سورية، والذي أجبرها على اللجوء إلى السعودية، لتتزوج من أحد مواطني المملكة، وأنجبت منه أطفالًا، قبل أن تنفصل عنه، لتعود من هناك إلى لبنان حيث واجهت مأساة أخرى أثقلت من همومها التي صارت كـ”الجبال”، كما تقول.
وتشير إلى أنها ذهبت إلى لبنان من أجل توفير لقمة العيش، وتوفير مال تتمكن به من توكيل محام يساعدها في العودة إلى السعودية، واسترداد أطفالها من طليقها. لكنها لم تكن تعلم أنها ستذهب إلى جحيم أكثر آلما من جحيم الحرب في بلدها وجحيم فقدان أطفالها.
وتقول رنا ساردة قصتها: “كان من المقرر أن أمكث في لبنان شهرًا عند عمي، ثم أعود إلى السعودية من أجل محاولة استرداد أولادي. لكنني لم أرتح في العيش مع عمي. تركته بعدما تعرفت على بنات، وسكنت معهن في منزل مشترك في جونيه. تعرفت على عماد من قبل أحد الأشخاص على أساس توظيفي في مطعم”.
وتضيف: “اتصلت به (عماد) فجاء إليّ، وقال إنه يريدني أن أعمل لديه، فسألته إن كان باستطاعته مساعدتي في العودة إلى السعودية، فأنا تركت أولادي ولديّ مشكلة مع السفارة (السعودية)، حيث يريدون مني ورقة تثبت أنني متزوجة من مواطن سعودي ولي أولاد منه لمنحي تأشيرة، وأحتاج إلى من يرسل هذه الورقة من السعودية، وزوجي لن يقبل بذلك”.
وتشير إلى أنها بعدما عرفت بطبيعة العمل، رفضت، وبعد الضرب والتعذيب عادت ووافقت. وكشفت أنها بعد فترة حملت من أحد الزبائن، وتأخروا في إجراء عملية إجهاض لها حتى أصبحت في الشهر الرابع. عندها أصبح من الصعب إجراء عملية الإجهاض، “فأعطوني دواءً حتى يقتل الجنين ويفتّته في أحشائي قبل سحبه”، كما تقول رنا.
أما سيرينا (27 عاما من ريف إدلب، شمالي غربي سورية)، فوصلت إلى لبنان قبل نحو ثلاثة أشهر، هربا من الخوف الذي صار يلاحق كل من بقي في سورية، بسبب الحرب الدائرة هناك. وتسرد تجربتها المريرة قائلة: “تعرفت على شاب (عماد) على أساس قصة إعجاب وزواج. أخبرني أننا سنعيش في لبنان وسنعمل معاً. عندها، أعددت أوراقي وسافرت إليه”.
وتضيف: “تحدثت مع عماد عدة مرات عبر الهاتف قبل السفر، وجعلني أتحدث إلى نور التي عرّفني عليها على أنها إحدى صديقاته (اكتشفت بعدها أنها زوجته وإحدى الحارسات في الشبكة) التي شجعتني بدورها على المجيء إلى لبنان”.
وبعد حضورها، اصطحبها عماد إلى ملهى “شي موريس”. وحول ذلك، تقول سيرينا: “عندما وصلت إلى الملهى لم أشعر بشيء غريب، إذ تخيلت أنني سأقدم الطلبات للزبائن، وبعدها طلب عماد من أحدهم إرشادي الى غرفة لأرتاح فيها”.
وتشير إلى أنها لم تكن تعرف معنى كلمة “دعارة”، وحاولت أن تستفسر من إحدى الفتيات عن طبيعة هذا العمل. ولم ترغب سيرينا في استكمال قصتها، حيث إنها لا تريد تذكّر الفظائع التي عايشتها داخل الملهى.
أحدث ضحية
قبل 10 أيام فقط وصلت نغم (30 عاما من طرطوس، غربي سورية)، إلى لبنان لتصبح أحدث ضحية للشبكة. وحول تجربتها المؤلمة تقول: “صديقة لي في سورية اتصلت بي في إحدى المرات، وقالت إن لديها صديقاً يريد أن يفتح مطعماً في جونيه، وعرضت عليّ العمل لديه بمعاش (راتب) 1000 دولار أميركي، لأتمكن من جمع المال ويلحق بي زوجي في وقت لاحق من سورية، حيث صار الموت يطارد كل من بقي هناك”.
وتضيف: “حين وصلت، أطلعني عماد على حقيقة العمل، فرفضت، وقلت له إن بإمكاني أن أتصل بأحد الأشخاص ليؤمّن له المبلغ الذي دفعه كلفة وصولي إلى لبنان، فقال: (لا، بدكن تشتغلوا)، وبعد الضرب والإكراه، أجبروني على العمل”. وطلبت نغم عدم الخوض في تفاصيل أخرى من قصتها حفاظا على كرامة زوجها، وحتى لا تتضرر صورتها بشكل أكبر أمام أطفالها.