الاحتجاجات السورية: النظام يفقد المبادرة
مركز الجزيرة للدراسات
قابل النظام السوري الاحتجاجات المطالبة بالحرية بوعود إصلاحية وقبضة حديدية، وجاء خطاب الرئيس بشار الأسد واصفا لها بالمؤامرة والفتنة، فلم يطفئها ولكنه جعلها تتأجج وتتسع.
بعد دعوات للاحتجاج في سوريا في منتصف هذا الشهر انطلقت بصورة أساسية من صفحات على موقع الفيسبوك، ثم اعتصام تضامني مع أسر معتقلي الرأي جرى قمعه بقسوة أمام وزارة الداخلية السورية يوم 16 مارس/آذار، واعتقل إثره نحو 35 مشاركا من الرجال والنساء، لم يتوقع أحد أن تستلم مدينة درعا الصغيرة والطرفية زمام قيادة الاحتجاجات الشعبية بدءا من يوم الجمعة 18 مارس/آذار. كان نحو 15 طفلا من تلاميذ مدارس المدينة قد اعتقلوا قبل ذلك بعشرين يوما بذريعة أنهم كتبوا شعارات مناهضة للنظام على جدران المباني في المدينة، في ما يحتمل أنه كان تأثرا بالثورتين التونسية والمصرية. وعرف فيما بعد أن صدور الدرعاويين كانت تُكنُّ غضبا متراكما تجاه سلطات المحافظة.
المزج بين الإصلاحات والحل الأمني
السلطات السورية التي لم تعتد أن تواجه باحتجاجات علنية مزجت القمع بتنازلات محدودة، منها عزل المحافظ ومسئول الأمن في مدينة درعا، والإفراج عن الأطفال المعتقلين، وقد تبين أنهم تعرضوا لتعذيب قاس. لكنها أقدمت ليلة الاثنين/ الثلاثاء على اقتحام مقر الاعتصام الاحتجاجي المستمر، الجامع العمري في درعا (يؤثر أن الخليفة عمر بن الخطاب صلى فيه)، وقمع من فيه.
ليس هناك معلومات أكيدة عن عدد الضحايا ومن نفذ العملية لأن مدينة درعا عزلت عن العالم منذ يوم الجمعة السابق، وصار متعذرا الوصول إليها والاتصال بها. ولقد وقع ضحايا جدد في كل يوم من الأيام الموالية أثناء تشييع شهداء اليوم السابق. حتى إذا حل يوم “جمعة العزة”، 25/3، الاسم الذي أطلقته صفحة “الثورة السورية على بشار الأسد” على موقع الفيسبوك، بلغت الاحتجاجات الحورانية (في مصطلح اليوم، حوران هي درعا، المدينة وريفها) ذروة الغضب والزخم. تجمع الآلاف أمام قصر المحافظ داعين للحرية، ومنددين بأقرباء الرئيس، وهاتفين لكرامة الشعب السوري. وفي حدث رمزي نادر، حطّم المتظاهرون تمثالا للرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، الأمر الذي يعد تحديا سافرا للنظام.
في الليلة السابقة، كانت السيدة بثينة شعبان، المستشارة في رئاسة الجمهورية لشؤون الإعلام، عقدت مؤتمرا صحفيا، حاولت فيه استباق دعوات التظاهر في اليوم التالي، وقدمت وعودا تتصل بتحسين الأوضاع المعيشية للعاملين في الدولة، ومحاربة الفساد والنظر في إلغاء قانون الطوارئ وإصدار قانون للأحزاب وآخر للإعلام. هل حدّت هذه الوعود من احتجاجات اليوم التالي؟ ربما. لكنها كانت مع ذلك أوسع احتجاجات شعبية علنية، تمتد لعدة مناطق سورية، طوال 48 عاما من حكم حزب البعث.
لكن الأحداث أخذت منعطفا خطيرا في مدينة اللاذقية يوم السبت 26/3، حيث ارتاعت المدنية من هجمات غامضة المصدر ومنفلتة من عقالها، تسببت في مقتل 12 من السكان، بينهم رجال أمن كما أعلنت الحكومة السورية. وقد نسبت هذا إلى جهات “إرهابية” حسب وزير الإعلام، وجهات “أصولية” حسب مستشارة الرئيس الدكتورة بثينة شعبان. لكن هناك من يعتقد أن “شبّيحة” (بلطجية عنيفون وفوق القانون) موالين للنظام هم من عملوا على تفجير الأوضاع، ترهيبا للسكان وإثارة لنزاع طائفي، يجعل الناس في حاجة إلى الأمن والقائمين عليه، أي النظام وأجهزته الأمنية. وربما أكثر من ذلك، يسيء إلى الحركة الاحتجاجية عبر ربطها بالطائفية بعد أن امتدت إلى اللاذقية. وهي مدينة متعددة دينيا ومذهبيا، كان أكثر سكانها سنيين قبل عقود، لكن يحتمل أن أكثرهم علويون اليوم، مع تواجد مسيحي كبير نسبيا.
على أن مسعى التفجير الطائفي، أيا يكن من وراءه، أخفق. والاعتصام العلني الوحيد المستمر اليوم في سورية، في حي الصليْبة (السني) في مدينة اللاذقية، يركز على الوحدة الوطنية وعلى الإخوة بين السنيين والعلويين وبين المسلمين والمسيحيين.
مسيرات الولاء وخطاب التحذير
على أن أبرز الوقائع السورية خلال هذا الأسبوع الطويل جدا هي “مسيرات” واسعة خرجت إلى شوارع المدن السورية للتضامن مع الرئيس بشار الأسد يوم الثلاثاء 29/3. إلا أن بعض النشطين على صفحات الفيسبوك وضعوا صورة لأمر إداري موجه إلى الجهات الحكومية والحزبية والإعلامية والتعليمية في مدينة طرطوس الساحلية للخروج في المسيرة “تأييدا للسيد الرئيس بشار الأسد وتعبيرا عن الولاء المطلق له”. وليس من المستبعد أن أوامر مماثلة جرى توجيهها في المدن السورية الأخرى.
كانت المسيرات المؤيدة للنظام التي عمت البلد يوم الثلاثاء خلفية لخطاب الرئيس بشار الأسد الذي ألقاه الأربعاء، 30 مارس/آذار.
وبالفعل، جمع الخطاب بين وعود غير محددة المعالم، وتلويح بالقبضة الحديدية. فتكرر فيه ذكر “مؤامرات” و”فتنة” لوصف الاحتجاجات. وهذا تشخيص اقترن على الدوام بالحلول الأمنية وبإنكار الحاجة إلى حل سياسي خارج القوالب السابقة. وفحوى الخطاب هو “الإصلاح” تحت سقف النظام، وليس إصلاح النظام. وبنظرة عامة، يبدو أن النظام ينكر المضمون السياسي للاحتجاجات الشعبية، وينكر شرعيتها بالذات. وبدل أن يطفئ الاحتجاجات أججها، كما ظهر في ما أطلق عليه المتظاهرون “جمعة الشهداء”، يوم 1/4، التي شهدت تظاهرات واعتصامات بالآلاف في العديد من المدن والبلدات السورية، ما يدل على أن قطاعات واسعة من السوريين لا تثق بوعود النظام. وتجارب السوريين طوال عقود تفسر هذا الموقف المتشكك، فلقد اعترف الرئيس بشار نفسه بأنه كان وعد بالإصلاح منذ سنوات لكنه تأخر في الوفاء به لأسباب ظن أنها وجيهة. ثم إن متابعة وسائل الإعلام السورية، والاستنفار الأمني الظاهر في المدن السورية، يعطي انطباعا بأجواء حربية في البلاد، لا بأجواء إصلاح. كلها ظواهر تعيد إلى الذهن ثمانينات القرن العشرين، وقد كانت عقدا مأساويا، أريقت فيه دماء آلاف السوريين (ربما فوق 30 ألفا)، و”فقد” فيه (نحو 17 ألفا)، واعتقل آلاف.
الجزيرة نت