الاختلاف مع مارسيل خليفة نموذجاً لاضطراب الذائقة
مازن معروف
يعمل مارسيل خليفة منذ عدة سنوات على الخروج بحلة موسيقية مختلفة، أقله على مستوى توزيع الآلات والأصوات. منذ أن انضمَّ إليه ولداه، رامي وبشار، تقاسما معه كل شيء تقريباً، موسيقى وغناءً. وتطورت سلطتهما شيئاً فشيئاً حتى باتت “فجة” في وجه الجمهور المعترض عليها. فسح مارسيل المسرح لهما، وأصبح هو، بكل ما يحمل من رمزية وإرث موسيقيين، شرفة يطلان منها على جمهور الوالِد بالمقام الأول، لا جمهورهما. جرأة مارسيل تتقابل مع جرأة رامي وبشار، في الانفراد بمساحات ارتجالية، وصولوهات طويلة، تخرج أحياناً عما “يتوقعه” الجمهور، وما يريدون نيله. وهو ما حدث صيف العام الفائت في بيروت وما تكرر إلى حد ما في مسرح (Bouffes du Nord) في باريس. أمسك الشابان بالأغنية المسجلة مسبقاً والمقرونة بحقبة تاريخية وخطاب سياسي، ووضعاها في قالب خاص بهما، ما جعل البعض يختلف مع خليفة الأب اليوم حول قراره هذا، من دون بذل هؤلاء جهداً للتطرق نقدياً إلى تعديلات الفنان الموسيقية وإضافاته “الجديدة”. الاختلاف مع مارسيل خليفة اليوم يتشعب انطلاقاً من نقطة واحدة، قد تعتبر شأناً خاصاً ونسبياً وهي: الذائقة. إلا أنها في حالات معينة تعبر عن تطلعات سياسية جماعية شرهة، قد تقوقع الموسيقي أو الفنان عموماً، وهو ما يدعو إلى محاولة البحث بشكل عام خارج الإطار النقدي للموسيقى، وبغض النظر عن مدى اتفاقنا اليوم (في الذائقة والشكل) أو اختلافنا مع اللغة الموسيقية “الخليفية” المستجدة،
فالذائقة الموسيقية أو الفنية عموماً لا تولد إلا نتيجة معطيات تاريخية، وظروف ناشئة منذ عهد قريب، وقد تكون هذه الظروف سياسية حربية مثلاً، أو اجتماعية صناعية، أو حتى ظروف ثقافية يتشبع بها المكان واللغة واليوم. وهي ليست أمراً مقتصراً فقط على الجينات الوراثية ولا موجودات صالون العائلة والمحاولات التربوية ولا على ما يعتبره البعض “ثوابت أخلاقية”. فالذائقة لا تنشأ من تلقاء نفسها، وليست انفجاراً صُدفياً ولا مسّاً كهربائياً مفاجئاً، ولا بد أن يتمحور حولها حدثٌ ما يؤدي إلى حراك فكري نقدي أو ترويجي، ثوري أو تقليدي، مادي أو ميتافيزيقي، يلامس شتى مرافق الحياة، ومنها الثقافة والفنون. إلا أن قوة الذائقة غالباً ما تتفوق على قوة الظرف الذي هيأها، فتشهد المجتمعات أفول الخطاب السياسي أو خفوت وهج المرحلة وتحوّل هذه المرحلة المضغوطة في وعاء واحد إلى سلاسل من الأحداث منفصلة وقصيرة ومتضاربة، وبينما يتمكن العقل البشري من استدراك هذه التطورات وتبيانها عبر نشرات الأخبار والدعاية ونشوء الدراسات والأبحاث والقوى الجديدة، تتقوقع الذائقة الفنية داخل شرنقتها الصغيرة العاطفية، وتنكمش وتثقل وترفض الانتقال أو التطور. وهو ما يجعل من بعض الأفراد عاجزين عن محاكاة أي تطور فني، أو حتى قراءته ومحاورته نقدياً ومراجعته، بدل رفضه بدون مسوغات علمية. لا يمكن للحدث السياسي إلا أن يتنقّل من حقبة إلى أخرى (كي لا نقول يتقدم أو يتطوّر). وخلال انتقاله المتواصل، وعبوره الستارة الزمنية التي نشأ فيها، يكون قد ترك خلفه ذوائق فنية تشتغل في مكانها وتُوقِفُ، أقله في بلادنا، الورشة الفنية عموماً داخل ما يشبه مغسلة مسدودة. وعلى أساس هذه الذائقة، التي نشأت ميكانيكياً، والتي بدل أن تكون نتاجاً ثانوياً أو (side effect) تحولت إلى مقياس أو (standard)، ينبثق النقد الذي غالباً ما يكون شاهد زور لمصلحتها. وتضخ كل طاقته لامتداحها والاعتراف بها كآمر ناهٍ. بعض الأفراد، وقد يشكل هؤلاء أغلبية ثقافية، وأقلية اجتماعية بامتياز، يبقى تأثيرهم السلبي، مدفوعين بذائقتهم الراسخة، لافتاً للانتباه في مجتمعاتهم العاجزة. فهؤلاء يستطيعون، كنخبة فكرية، الدفاع عن الذائقة بكل ما يلزم، سواء بنبشهم لقضايا مركزية مثلاً، أو نظريات سوسيولوجية بائتة أو تفسيرات قديمة يوهمون العامة بأنها تتنبأ وتتوقع فيعاد تدويرها وصقلها بحسب حاجة الحدث الحالي. لهذا فإن ما تشهده منطقة الشرق الاوسط من ثورات يستدعي أيضاً التشكيك بهذه الذائقة، وإعادة تشريحها، ودراسة الظروف التي أنشأتها. لكن سيكون من الخطأ تدمير هذه الذائقة تدميراً كلياً أو تخريبها على طاولة الفحص. إذ لا يمكن إلا أن تتصل كل ذائقة قديمة بالذائقة الجديدة، ولو عبر مجسات دقيقة، ولا بد دوماً من المرور في الاتجاهين، أي من الذائقة القديمة إلى الجديدة، وبالعكس، لتأسيس أساليب ـ إذا امكن ـ مختلفة، وفهم القاعدة الفكرية والسياسية والظروف الاجتماعية التي تمثل دعاماتها.
ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن في أننا وبدرجة كبيرة، لم نتمكن إلى الآن من كسر سلطة الذائقة التي نشأت في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين على مستوى القصيدة والموسيقى أحياناً والمسرح. ولعل أسوأ مفارقات الثورات اليوم، هو استعادتها أساليب كتابية وتشكيلية قديمة، يعادل سوؤها سوء الأباطرة أنفسهم، لكن يتم الترويج لها على مدار الساعة، بحسن نية وخدمة للثورة النبيلة. ما يدل على سلطة الذائقة، ومدى تجذرها في المجتمعات، واعتبارها محمية – وهي كذلك بالفعل ـ وعدم قدرة المجتمع الثائر على العبث بها، كونها مقدساً عاطفياً ووسيطاً بينها وبين الفرد لفهم “الماضي” و”التاريخ” و”المرحلة السابقة”. وتضاربها في الوقت نفسه مع الحدث السياسي المتفوق عليها لجهة عبوره الزمن وتأسيسه لمرحلة طويلة، وإن ببطء.
ولا شك أن مارسيل خليفة يجهد اليوم للخروج على قواعد الذائقة التي حكمت أعماله، وتحكّمت بها، سواء كانت ذائقة سياسية أو فنية أو حتى إيديولوجية أو شعبوية. لكنه بذلك يقدم محفزاً للبحث في العوامل التي أسست للعلاقة بين أغانيه وجمهوره، ودراسة مكامن القوة في هذه العلاقة ومواطن الضعف. من هنا سنقول إن فنانين أمثال خليفة وقعبور وشقير وغيرهم، لم يحظوا بقراءة نقدية عادلة لأعمالهم الموسيقية، وغالباً ما كان يتم التعاطف مع جملتهم المغناة أو المكتوبة على أساس خدمتها لقضية سياسية ما أو لحدث طارئ، طويل جداً، لكن طارئ، كالقضية الفلسطينية على سبيل المثال. أي أن هؤلاء، الذين التزموا إطاراً ما، سياسياً – فنياً، بقوا فريسة لشراهة اليسار عموماً ومتطلباته المتتالية، وهي شراهة تطرفت لتشابه إلى حد بعيد شراهة اليمين في قضايا أخرى على المقلب الآخر. لكن المنطقة كذلك تشهد ارتداداً عن الذائقة “السابقة”، إلا أنه ارتداد غير نقدي، لا يربط بين نشأة العمل الفني ولغته بالظرف الإقليمي ولا يعزوه إلى التاريخ، بل إلى الموقف السياسي الراهن، ويتمثل في دعوات إلى تدمير بعض الأعمال الفنية وعدم الاعتراف بمشروعيتها، سواء كانت مسرحاً أم شعراً ام موسيقى، بالاستناد فقط إلى موقف الفنان من الثورات مثلاً، وهو ما يشكل مفارقة خطيرة، ذلك أن السياسة “المرحلية” تتقدم هنا على الفن، وتستعمل كمقياس لتحديد صلاحية العمل الفني من عدمه، وتلزمه بموقف مؤيد للخطاب العام. يجوز محاكمة الفنان أو الكاتب محاكمة أخلاقية كبشري/ فرد، لكن سيتطلب الأمر حذراً كبيراً عند التعاطي مع نتاجه الفني، ذلك أن المعايير تختلف والمقاييس عموماً، وكذلك اللغة ودرجة الواقع. ولو راجعنا مواقف بابلو بيكاسو من الثورة الاسبانية وخصامه الكبير إلى غير رجعة مع أندريه بريتون على أساس اختلافهما في الرأي السياسي، لكان علينا لزاماً إما تدمير نتاج بيكاسو كاملاً، أو تدمير نتاج بريتون وبالتالي التنكر بجدية تامة لدوره في تطور السوريالية وتغييبه كلياً.
باريس
السفير