صفحات الرأي

الاستبداد بالمعرفة/ أحمد بيضون

 

أيّامَ راحت تتعاقب حركاتُ التغيير في أقطارٍ عربية مختلفة بين أواخر العام 2010 والأشهر الأولى من تاليه، ردّدَت أقلام كثيرة أن هذه الموجة المهولة التي تصدّرت، إلى حينٍ، مسرحَ السياسة العالمية قد جاءت مباغتة. فلم يكن قد توقّعها أحد من الدارسين أو من متابعي أحوال المنطقة بمن فيهم الضالعون في العمل السياسي، في هذا أو ذاك من المجتمعات المعنية. يستوي في ذلك الناطقون من داخل مجتمعهم والناطقون من المنافي. ولا يخرج عن السويّة نفسها أجانبُ منسوبون إلى الخبرة بشؤون المنطقة من سياسية وغيرها.

على أن الذين أشاروا إلى هذا الفشل في توقّع حركات كان لها هذا العمق وهذه السعة اكتفوا بالإشارة أو شفعوها، في أحسن الحالات، بشيء من التعجّب من ظاهرة الفشل تلك من غير أن يطلبوا لها تفسيراً.

حين ننظر اليوم في ما شهدته السنوات الثلاث التي تلت تلك المرحلة الأولى، يتعين علينا أن نلاحظ أن الفشل في التوقّع لم يكن خاصّاً بظهور الحركات المشار إليها وحده وإنما شمل أيضاً ما آلت إليه كلّ منها وما اجتازته قبل ذلك من أطوار. والواضح أن الميدان الأثير لهذا الفشل إنما هو دواخل المجتمعات والتفاعل المتسلسل الذي شهدته هذه الدواخل وليس المجال الجغراسي أو الخارجي الذي اندرجت فيه حركات التغيير.

فإن توقّع المواقف والإجراءات التي بدرت من القوى الخارجية الضالعة في شؤون المنطقة ومما يسمّى المجتمع الدولي حظيت بالعناية المنتظرة من المحللين، على اختلاف منابتهم، وصحب هذه العناية، على التعميم، قَدْر مقبول من التوفيق في التوقّع المتعلّق بتصرّفها في كلّ ظرف أو طور من تلك التي اجتازتها، حتى اليوم، هذه أو تلك من حركات التغيير العربية. الفشل الأكبر كان وبقي في توقّع أطوار الداخل بأعمّ مصاديقه، أي المجتمع، وما يتمخّض عنه من بوادر ومواقف.

لا يمكن ألا نحمّل المسؤولية عن شطر جسيم من هذا الفشل للعهود البائدة من الاستبداد بشؤون هذه المجتمعات بما هي عهود جهل واسع النطاق بكلّ منها لا من جانب ذوي الاختصاص المزعومين وحدهم بل من جانب المجتمع نفسه الذي حرص النظام المستبدّ بشؤونه على إبقائه جاهلاً بنفسه، لا يستجمع معرفة بما يدور في جنباته ولا يصوغ أو يعلن مواقف صريحةً من تعاقب الأحوال فيه.

بمعنى ما، كانت هذه المجتمعات مجتمعات سرّية: بمعنى أن أحوالها كانت تبقى سرّاً عليها فلا تجتمع لها معرفة بنفسها حيث ينبغي لهذه المعرفة أن تجتمع: أي في المراكز المنوط بها، عرفاً، مهمّات تحصيل المعرفة بالمجتمع وجمعها وتنظيمها ثم نشرها حيث يلزم.

يشدَّد، عادةً، على قمع الأنظمة المستبدّة حرّيات الرأي والتنظيم والعمل السياسي والانتخاب، إلخ. ولكن هذه الأنظمة تقمع أيضاً حرّية تحصيل المعرفة بنفسها وبمجتمعاتها وحرّية نشرها وتداولها. فلا يُتصوّر أن طالباً يعدّ رسالة لنيل شهادةٍ عليا يسعه أن يُجري، بحسب ما يراه ملائماً من أساليب، ما يحتاج إليه بحثه من تحقيق في المحيط الذي يتناوله البحث. ليس منتظراً أن تكون عين الاستخبارات غافلة عمّن يتجوّل في طول البيئة المدروسة وعرضها موزّعاً الاستمارات أو مجرياً المقابلات.

ولا يمكن ألا يتبع تشدّدُ الاستخبارات طَرْداً اقترابَ الباحث من الأمور ‘الحسّاسة’ أي ممّا يمكن أن يدلّ على وقائع في المجتمع تكذّب دعاوى النظام أو على مواقف الأفراد والجماعات من تصرّفات الدولة أو النظام بمختلف جهاته وأجهزته. يرجّح أيضاً أن تحمل أجوبة المستجوَبين شيئاً كثيراً أو قليلاً، بحسب الموضوع، من آثار القمع الذي كان قد لجم أسئلة الباحث أصلاً ورسم نطاقاً لحركته وعيّن له، بمعنىً ما، ما يؤذن له بالوصول إليه من خلاصات وما يتعين عليه تحاشيه.

هذا الذي يتعرّض له مُعِدّ الرسالة الجامعية يصبح أشدّ وضوحاً وأثقلَ وطأةً، على الأرجح، في حالة الباحث المكرّس. قطاع الباحثين هذا وما ينشرونه من أبحاث تتشكّل منها المكتبة المتداولة، المتعلّقة بقطرٍ من الأقطار، يقتضي الإلمامُ بحاله في ظلّ الاستبداد وقفةً خاصّة.

لهذا البحث صلةٌ إذن!

كاتب لبناني

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى