‘الاستثناء’ الامريكي والاستيهام ‘المنحبكجي’: الواقع والخيال
صبحي حديدي
في هبوط نحو حضيض أقصى للابتذال والبلاهة والجهل، فضلاً عن الإغراق أكثر في تعمّد التجهيل واستغفال ما تبقى من مَلَكة تفكير في بعض العقول الموالية للنظام السوري، كانت ‘شبكة أخبار القوّات المسلحة السورية’، وهي إحدى صفحات الـ’فيسبوك’ التي تُصنّف تحت تسمية ‘المنحبكجية’، في إشارة إلى التدلّه بمحبة بشار وماهر الأسد بصفة خاصة، قد نشرت النصّ التالي (ونقتبسه حرفياً، بعد تصحيح أخطائه النحوية والطباعية): ‘هنالك مصادر تؤكد أن إعصار ساندي الذي يضرب أمريكا قام بتحريض من أجهزة متطورة جداً يملكها نظام إيران المقاوم البطل وبالتنسيق مع نظامنا الممانع. كما أكدت المصادر أن هنالك خبراء من سورية ساهموا في هذا العمل. هذه عاقبة من يهاجم سورية الأسد ويهدد أمنها’.
ليس هذا هو الخبر، في قناعتي، إذْ ليس غريباً أن تلجأ صفحات كهذه إلى أيّ، وكلّ، معلومة تخدم طرائق التجهيل والتزييف والتعمية (على غرار خبر، آخر، يقول: ‘انفجار ناقلة نفط في العاصمة السعودية الرياض’!).
ما هو جدير بالتأمل، في المقابل، أنّ صحيفة ‘واشنطن بوست’ الأمريكية كرّست مادّة تزيد عن 240 كلمة، للتعليق على تفسير ‘المنحبكجية’ لإعصار ساندي. ولقد أدرجته ضمن ‘ردود الأفعال العالمية’، لأنها اعتبرته ‘الأكثر طرافة’ غالباً، مشيرة إلى أنه تلقى أكثر من ألف تعليق، وجرت مشاركته عبر الآلاف. أمّا غربلة التعليقات على مادّة الـ’واشنطن بوست’ ذاتها، فإنها تجاوزت الـ 60، وهي تشير إلى مزيج لافت حقاً: التربص بالآخر، رغم السخرية من استيهاماته؛ واستثمار عنصر السخف والبلاهة في الخبر، للتذكير بأنّ أمريكا مستهدفَة في كلّ حال، من ذلك الآخر؛ ليس دون العزف على نغمة كراهية المسلمين لكلّ من أمريكا، والغرب، وإسرائيل.
أحد التعليقات يقول إنّ إيران أصدرت فتوى ضدّ هواء إيراني طلب اللجوء السياسي في أمريكا، لكنّ الصدفة شاءت أن يسخن، فانقلب إلى إعصار! تعليق آخر يعمّم الغباء، من صفحة ‘المنحبكجية’، إلى غباء سوري، وصولاً إلى غباء الشرق الأوسط بأسره. ولم يغب عن التعليقات رأي يسخّف إقدام الصحيفة على نشر هذا السخف، ويطالب باحترام عقول القرّاء؛ أو آخر يضع الخبر في سياق الانتخابات الرئاسية، ويتهكم على المرشحَيْن، الديمقراطي باراك أوباما والجمهوري ميت رومني، معاً؛ أو ثالث، (سوري هذه المرّة، ويعلن محبّة الأسد) يؤكد أنّ ‘شبكة أخبار القوّات المسلحة السورية’ مزيفة ومعادية للنظام، ومن صنع… الإسلاميين!
وقد يتوفر جانب إخباري ومهني محض، يفسّر إقدام صحيفة كبرى أمريكية على الاهتمام بهذا التفسير لإعصار ساندي؛ لكنه لا يطمس جوانب أخرى تخصّ الذهنية الأمريكية عموماً (من زاوية علاقة الولايات المتحدة بالعالم ما وراء المحيط، إجمالاً)، خاصة في المواسم الانتخابية، حين تتعالى أحاديث، من كلّ حدب وصوب وطراز، حول مفهوم ‘الاستثناء الأمريكي’. وفي هذه الأجواء، التي يكتنفها الغليان الشعبوي وإذكاء نار الحميّة الوطنية، يطيب للساسة الأمريكيين أن يلهجوا، ليل نهار، بمفهوم عتيق أكل الدهر عليه وشرب، دهر الولايات المتحدة مثل دهور سائر المعمورة ما وراء المحيط. ليس عجيباً، ولا ‘استثناء’ هنا، أن تنتفض تلك الذهنية حتى إزاء خبر تافه وأبله، لعلّه أقرب إلى مزحة ثقيلة الظلّ، حول مسألة علمية ومناخية مثل إعصار ساندي، فتستذكر توتر العلاقات بين أمريكا والبشرية جمعاء!
ورغم أنه ليس بضاعة أمريكية المنشأ أو الصنع، إذْ سنّه للمرّة الأولى المفكّر السياسي الفرنسي ألكسيس دو توكفيل في مطلع العقد الثالث من القرن التاسع عشر؛ فإنّ مصطلح ‘الاستثناء الأمريكي’، أو ‘الاستثنائية الأمريكية’ كما يردّد البعض، لا يكاد يغيب عن ألسنة أهل السياسة في الولايات المتحدة، على اختلاف عقائدهم ومشاربهم، سواء قصدوا به الداخل (إبقاء جذوة ‘الحلم الأمريكي’ متقدة عارمة)، أو لوّحوا به للخارج (‘واجب’ الولايات المتحدة تجاه الإنسانية جمعاء، و’الدور الخاصّ’ الذي ألقاه التاريخ على عاتقها…). بالطبع، لا أحد اليوم يفكّر برجل مثل توكفيل وهو يستخدم المصطلح، ليس لأنّ مدلولاته الراهنة انحرفت تماماً ونهائياً عن تلك الأصلية التي شرحها المفكّر الفرنسي، فحسب؛ بل لأنّ تلك المدلولات صارت عائقاً أمام نزوع الساسة الأمريكيين إلى حشر المصطلح في دائرة واحدة، وشبه وحيدة ربما، هي أنّ أمريكا ذات امتياز كوني فائق، في أيّ شيء وكلّ شيء.
المرشّح الجمهوري للرئاسة يؤمن، بل يؤكد، أنّ الله اختار الولايات المتحدة دون كلّ أمم الأرض، لتكون منبع الضياء والأمل والحرّية للإنسانية جمعاء (وهو، في هذا، يغرف من منابع اللاهوت الديني لجماعة الـ’مورمون’). آخرون، من طينة المحافظين الجدد مثلاً، يرون الاستثناء في ما تتمتّع به أمريكا من ‘هبة الخير’، المسلحة بالقوّة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، والتي تمنح الحقّ وتفرض الواجب للقيام بأيّ فعل على نطاق العالم، ما دام يستهدف الصواب، دون الاكتراث بمدى شرعيته أو طبيعة عواقبه. أوباما، الرئيس ـ المرشّح، استخدم مصطلح ‘الاستثناء الأمريكي’ أكثر ممّا فعل جورج بوش الابن، بل يزايد على الآخرين في جعل المصطلح الآخر، ‘الحلم الأمريكي’، مكوّناً أساسياً في صناعة حال الاستثناء. رجالاته، وبعض منظّري الحزب الديمقراطي، لا يتورّعون عن التلميح إلى صيغة إمبراطورية تكتنف الاستثناء والحلم معاً، على غرار ما شهد تاريخ اليونان وتاريخ بريطانيا.
ولكن ماذا عن ‘أوشاب’ هذه الإمبراطورية ذاتها، بين ظهرانيها، ضدّ أبنائها، وفي قلب ركائز ‘الاستثناء الأمريكي’ دون سواه؟ قبل زمن ليس بالبعيد كان فيليب جيمس، أحد أبرز مخضرمي التخطيط الستراتيجي الأمريكي، قد أطلق صفة ‘الكابوس’ على التسجيلات الهاتفية التي كان بوش الابن قد وافق على إجرائها بحقّ عدد من الشخصيات الذين ارتابت الإدارة في أنهم على صلة بمنظمة ‘القاعدة’. ‘هل تنقلب أمريكا إلى الشاكلة التي تخشاها كلّ الخشية’، تساءل جيمس، قبل أنّ يحدّد الشاكلة تلك: ‘دولة على غرار الأخ الأكبر’، في إشارة إلى النظام البوليسي السوفييتي كما تخيّله الروائي البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة ‘1984’؛ حيث ‘الحكم للأوامر العليا، ولا أحد مستثنى من تنصّت البوليس السرّي، وكلّ شيء مسموح به دفاعاً عن الوطن، بما في ذلك التعذيب’؟ هذا، في صياغة أخرى تأخذ بعين الإعتبار أننا نتحدّث عن الولايات المتحدة الأمريكية وليس عن نظام استبداد وفساد وجمهورية وراثية دكتاتورية، انقلاب من استثنائية الحلم إلى… استثنائية الكابوس؛ أو، كما في تعبير جيمس نفسه: ‘عالم أورويلي، حيث المذكّرات الإدارية المدافعة عن التعذيب تُسطّر في وزارة العدل ذاتها، ويصبح القضاء مهنة فائضة عن الحاجة في الشأن العام’!
وهل، في المقابل، ثمة حاجة للكثير من العناء كي يدرك المرء عواقب هذه الدولة الأورويلية على نطاق عالمي، أنّى اتجه المرء ما وراء المحيط؟ ألا تواصل الولايات المتحدة احتلال، وأداء، دور روما الإمبراطورية في العالم القديم؟ أفلا تنتهك القوانين داخل حدودها وضدّ مواطنيها بقدر ما تفعل ضدّ العالم (إنشاء سجون أمريكية غير شرعية في بعض البلدان الأوروبية، ونقل المعتقلين المختطفين في رحلات جوية سرّية عبر مطارات الديمقراطيات الغربية…)، لكي لا نتذكّر تلك الحقوق الكونية التي يرى قياصرة أمريكا أنّ في وسع روما القرن الحادي والعشرين أن تتجاهلها تماماً (إعفاء الصناعة الأمريكية من التزامات بروتوكول كيوتو حول تخفيف غازات الاحتباس الحراري، على سبيل المثال)؟
ثمّ ماذا عن الكوابيس الاجتماعية لهذه الديمقراطية ـ الاستثناء؟ الحقائق، كما في تقرير روبرت رايش (وزير العمل الأسبق)، تقول إنّ البون بين الفقراء والأغنياء في الولايات المتحدة ليس شاسعاً فحسب، بل هو الأوسع منذ قيام البلد. والمشكلة لا تقتصر على حقيقة أن 20 بالمئة من مواطني أمريكا يتحكمون بالناتج القومي الإجمالي، بل في أن هؤلاء يستأثرون بنسبة 99 بالمئة من صافي أرباح الناتج القومي الإجمالي! الإدارات تقول إنّ الوظائف في ازدياد، فتكذّبها الإحصائيات: مليونا وظيفة فُقدت في عهد بوش الابن، وهنالك أكثر من 12 مليون عاطل عن العمل في عهد أوباما. وإذْ يقول دعاة ‘الاستثناء’ إنّ الشعب الأمريكي أكثر شعوب الأرض كدّاً واجتهاداً، تقول الإحصائيات إنّ على الأمريكي أن يشتغل ساعات أطول لا لكي يترفه أكثر، بل لكي يحافظ على وظيفته وضمانه الصحي وتعليم أبنائه، ولكي لا يهبط إلى لائحة البطالة القاتلة. هذا إذا لم يحتسب المرء الهزّات المتواترة التي تعيشها المصارف والأسواق والبورصات، حيث صار في حكم المسلّم به، وتحصيل الحاصل، أنّ صغار دافعي الضرائب هم كبار المتضرّرين.
وتبقى، بالطبع، نزعة أمريكية بامتياز، تجهد لتوحيد التناقضات في سلسلة ظواهر، ومفاهيم؛ قبل تسخيرها، قسراً، لخدمة سلّم المصالح الأمريكية، كما في مثال اصطناع علاقة تعسفية بين مفهومي ‘الرأسمالية’ و’الديمقراطية’. إذا نُظر إلى الرأسمالية كعقيدة لاقتصاد تنافسي ينتج قوى السوق، فإنّ الديمقراطية الليبرالية هي بالضرورة، وحدها تقريباً، عقيدة السياسة التنافسية التي تخلق التعددية السياسية. الميزان الحسابي النهائي هو التالي ببساطة: تصدير رأسمالية أكثر، وديمقراطية أقلّ. وإذْ تعلّق الحملات الأمريكية لافتة الغاية الأخلاقية (الديمقراطية) وراء حملات الدفاع عن حقوق الإنسان؛ فإنّ الحملات من أجل اقتصاد السوق لا تجد مفرّاً من رفع راية الربح وفائض القيمة (الرأسمالية)؛ فتكون المعادلة هكذا: لكي نعطيكم الديمقراطية، ينبغي أن تقبلوا الرأسمالية بشروطها التبادلية الراهنة، التي ليست سوى، ولا ينبغي لها أن تتضارب مع، شروطنا نحن!
غنيّ عن القول إنّ الـ’واشنطن بوست’ لم تنشر تلك المادّة، عن تفسير ‘المنحبكجية’ لإعصار ساندي، لأنها تحتقر عقول قرّائها، أينما كانوا، ولكن في أمريكا خاصة؛ بل لأنّ المناخات الانتخابية الراهنة التي تقتضي تضخيم حسّ ‘الاستثناء’ الأمريكي، تقتضي في الآن ذاته تضخيم دونية الآخر، في منطقة تظلّ ‘متطرفة’، و’إرهابية’، و’سلفية’. من الأفضل، بالطبع، أن تكون جهة موالية لاستبداد وراثي آيل إلى انقراض هي النموذج الذي يُطرح تدليلاً على هذه السمات البغيضة، كما في مثال النظام السوري؛ إلا أنّ هذا التخصيص لا يلغي التعميم، بل يستدرجه ويستدعيه ويحثّ عليه.
ذلك لأنّ الصحيفة الكبرى لم تكن وحدها التي انشدّت إلى الحكاية، وأبرزتها؛ بل هكذا فعلت قناة CNN العالمية أيضاً، مذكّرة مشاهديها بأنّ الرابط بين الخيال والواقع في شؤون الكوارث الطبيعية يمكن أن يكون صارخاً، أو عبثياً سخيفاً.
مواقع أخرى، أشدّ انحيازاً إلى إسرائيل، انقضّت على الواقعة لا لكي تسخّف محتواها، بل لكي تبرز تعبير ‘التكنولوجيا الإيرانية المتطوّرة’، في غمز من البرنامج النووي الإيراني. القاسم المشترك بين غالبية التغطيات كان، مع ذلك، أقرب إلى التعريض بأوهام ‘المنحبكجية’، واستيهام الأخطار المحيقة بالاستثناء الأمريكي، واغتنام الفرصة لمزيد من رجم منطقة… رجيمة أصلاً، ودائماً!
‘ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس