مراجعات كتب

الباحث أحمد بيضون في محنة الأوطان العربية أصولاً وفصولاً: الذين ملأوا الميادين في العواصم والمدن كانوا ولا يزالون حقائق

 

 

(«الناس التي نزلت إلى الشوارع والميادين في الثورات العربية طلباً للحرية والمساواة والكرامة الإنسانية هي حقائق بديهية ولا توجد طريقة أو أخرى لإنكارها»). بهذه القراءة يختم أستاذ علم الاجتماع، الباحث اللبناني أحمد بيضون كتابه «الربيع الفائت» في محنة الأوطان العربية أصولاً وفصولاً عن «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات».

كتاب يتناول الربيع العربي في مراحل تحوّله ومساراته في صور تتردد بين التشعب والتضافر.

وعادة ما يكتب أحمد بيضون برؤية مستقبلية إلى مسار الأحوال والتحولات لا سيما الربيع العربي الذي يمثل هاجساً للمثقفين والسياسيين والاقتصاديين ولمن يتابعون البنى التحتية الاجتماعية وأحمد بيضون يمثل وجهة نظر نقدية مهمة جداً في تفكيكه الشروطات العمودية والأفقية في الاجتماع العربي الحديث ومقوماته التاريخية والطبقية التي صنعت قيمة وأيديولوجية وهو الباحث والمؤرخ المتجدد فيها هو تاريخي وغير تاريخي، وفيما هو يحيل إلى أوضاع الناس وقضاياها اليومية حتى المعاصرة.

إنه إذاً الربيع العربي ومحنة الأوطان العربية أصولاً وفصولاً والتصادمات والتناقضات الثقافية والسياسية والهويات والانتماءات الأثنية والدينية والطائفية والقبلية لدرجة أن المجتمعية المواطنية تصير أوهاماً حقيقية ولكن الناس تبقى في هذه المحن هي الحقائق، في حقوقها الطبيعية والإنسانية التي تتأسس عليها مفاهيم الحريات من مثل الديموقراطية واللبيرالية.

عدا عن ذلك الأمور والمسارات مادة للنقاش بما له علاقة بالواقع والتعامل مع الواقعية السياسية والنظريات السائدة اليوم في العلاقات الدولية، وهذا التاريخ المضطرب مدعاة للشك ولعدم اليقين حتى «تابو» الديموقراطية يصبح وهماً فكيف بمجتمعات عربية تعاني مشاكل الانتماء والماضوية والتجمد الزمني والنقص في التبادلات والتقدم والعقلانية في مسارات الثورات التقدمية وتلك الخصوصيات التي تمثلها الجماعة المعلنة حيناً والتمايزات على اختلافها.. والخصوصيات الانكفائية للأمة من علامات الفشل في التقدم ليس بالانتقال من حال إلى حال، بل بتطور الانتاج الحضاري نفسه سياسياً واجتماعياً وثقافياً وإعلامياً في انفتاح على القيم العالمية الإنسانية، إذ لا معنى لحضارة إذ لم تخرج عن العنف وعن البربرية والوحشية وعبثاً تحاول المجتمعات الخروج من انتكاساتها تلك إلا بالتفلت من هذا العنف الرمزي والتاريخي والمادي الذي يعبر عن نفسه بالصراع على السلطة.

الكتاب ليس سيرة للحركات الاحتجاجية، هو نصّب مرايا في مواضع مختلفة ومناسبة لاسترجاع سيرة سياسية واجتماعية لجيل وأكثر منفصل إزاء كل ما يجري حوله في المنطقة وعبر عن ذلك بيضون في مقالاته التي تجمعها نقاط استدلالية واستقرائية مهمة يطلع منها شبه خاتمة للخطة الراهنة أو الوقت الحاضر ويعبر عن قلقه ما بعد الربيع العربي وعن معالم هاوية وللطائفية في المنطقة تاريخها كما لهوياتها المتصادمة ولمذاهبها المتقاتلة، كما هو الخوف على سوريا وتحولات الثورة ومسودات الاعمار، والبحث عن الحلول بما هي مشكلات وسط بلايا محيطة وعالم سياسي ضعيف وقيود كبيرة على النسق السياسي والاجتماعي والمعرفي، وقيود على الفرص المتاحة للخروج من أزمة فشل السياسة وأزمة في ترتيب الزمن كأنه زمن نهاية المجتمعات.

هنا مقتطف من استنتاجات في استطرادات ختامية أولية:(..) «يسود شعور مشروع بالخيبة صفوف من أبدوا تضامناً مع هذه الحركات في المرحلة التي يمكن أن يطلق عليها اسم اجمالي، هو اسم المرحلة «الشعبية». وهي اتسمت بضخامة الحشود الشعبية وغلبة الأشكال السلمية من تظاهر واعتصام عن العمل ووضوح الأهداف المعلنة وانعقاد قدر مرموق من الاجماع عليها. الأمر الذي كان يسمح بالاشتمال على كل من هذه الحركات على أنها وحدة يُنظر إليها في جملتها، بل كان يتيح النظر إلى المشهد العام الذي تحصّل بعد تدحرج الموجة إلى بلدان عدة على أن له هو أيضاً صفة تنضوي إليها ساحاته كلها وتبيح اعتبارها، على نحو ما، تجليات لقوة تغييرية واحدة. أسعف هذا التصوّر انبلاج الحركات المعنية هنا في أوقات متقاربة إلى حد بدت معه كأنها خرجت تباعاً من بؤرة واحدة.

يمكن القول أن ما جرى مذّاك أورث كثرة في مواضع الوحدة المفترضة على غير صعيد واحد؛ إذا انكفأ العمل السلمي في كل من الساحات، وانكفأت معه قوى ذوات أوزان اجتماعية لا تجد لنفسها مكاناً حيث يسود العنف وتتعين مواجهته بمثله. في الوقت نفسه، برزت، في كل من الحركات، قوى متعارضة إلى حد أمكنت مُداراته بالسياسة في حالات ومراحل وتعذّرت في حالات ومراحل أخر، وحل محلها الجنوح إلى العنف. وراح المنظر العام لما كان قد أمكن أن يطلق عليه اسم واحد هو «الربيع العربي» يتكسّر إلى صور متباينة…

فقدت الحركات، إذاً، صفتها الشعبية وفقدت وحدتها العامة، أي، على الأخص، وحدة المعنى والوجهة، وفقدت كل منها كل وضوح في صيغة الصلة التي تنطوي عليها بالمستقبل وتريد إملاءها عليه. فإذا كان قد بقي شيء من هذا، فإنما هي صيغة التخبّط أو صيغة الارتداد على العصر كلّه والبحث لا عن مكان في العالم، بل عن مخرج منه. هذه النكسات المتراكبة هي مصدر الشعور الذي ذكرناه بالخيبة.

هؤلاء ليسوا وهماً بصرياً، إنما هم قوى عظيمة الشأن أياً يكن ما انتهت إليه أدوارها. نقول هذا مدركين أن الأوهام البصرية كانت ولا تزال، في الحالات التي نحن في صددها، محتملة الحصول في الماضي والحاضر، وأن حصولها ليس شيئاً وهمياً هو نفسه. بل إن علينا البحث عن بعض مصادر الوهم في الصفاقة التي تبقى عليها الأحوال والأوضاع في مجتمعات كان تحصيل المعرفة بأوضاعها وأحوالها أمراً لا تستطيبه الأنظمة السياسية القائمة ويكرهه غيرها من السلطات أيضاً. كانت هذه وتلك تملك ما يلزم من وسائل الردع للحد من حركة التحصيل المشار إليه، فضلاً عن تزييف معطيات بديلة لحصائله.

يفضي التكسّر أو تكاثر الشقوق الذي انتهت إليه كل من الساحات إلى جبه ما يستشعره الفاعل السياسي من حاجة إلى الانحياز طلباً للفاعلية (هي ما بدأنا بذكره) بعسر في اختيار الصيغ والأحلاف لم يكن ليعرض له في ما سميناه المرحلة «الشعبية» من حركات التغيير. وهي أيضاً مرحلة تلبّس الحركات المذكورة معنى عاماً واحداً (أشرنا إليه) ووجهة ينحو تيارها نحو توحيد القوى في كل من الساحات. إذ عاينا ما صمد من الأنظمة القديمة أو ما قام من الأنظمة، لا تلبية لحركات التغيير، بل طلباً للجمها، يستوي النظام طرفاً في النزاع الأهلي فيتعذّر أن تفترض له شرعية الدولة، ويصبح سؤال الشرعية مطروحاً عليه بالصيغة نفسها التي يطرح بها على غيره من الأطراف(…).

لنا أن نخرج، من بعد، من نطاق الأفراد أو الجماعات، في اتصال هذه أو أولئك بالساحات المضطربة اليوم بالمواجهات الأهلية من سوريا إلى ليبيا ومن العراق إلى اليمن. نخرج مبتغين النظر في مواقف الدول الأخرى الضالعة في هذه النزاعات إلى حد المسؤولية عن إدامتها، في بعض الحالات. إذّاك نجد أنفسنا غير مستغنين، على هذا المستوى أيضاً، عن مقياس يتخطّى التقدير المباشر لمصالح هذه الدول طلباً لموقف نتّخذه من مواقفها ومسالكها. معلوم أن المواقف تفترق، على هذا المستوى، بين تغليب لما يُعتبر مصالح استراتيجية (يجب النظر في سلامة تقديرها)، وما يُعتبر مصالح للشعوب بما هي جماعات بشر أحياء أو مجتمعات.

هذه المصالح الأخيرة هي ما ظهر أن حركات التغيير غلّبته في مرحلتها الأولى معتبرة، في ما بدا، أن تحقيق الغلبة لها شرط لإحقاق كل حق، أياً يكن، يتعدى نطاق هذا المجتمع أو ذاك. على هذا المستوى أيضاً، نجد أنفسنا غير مطمئنين إلى حساب المصالح مقياساً نعتمده منفرداً، محتاجين إلى قيمة عليا نتخذها أساساً عاماً لمواقفنا. ههنا أيضاً تسوّي المصالح بين الصديق والعدو. ويتبدّى لزاماً أن نسأل عن أساس صداقة الصديق، وعما إذا كان هذا الأساس يبيح له أن يفعل ما يفعله أم لا يبيح… هذا فضلاً عن السؤال الذي تطرحه الأزمات من تلقائها، إذ تخرجنا من تلقائية التسليم بالصداقة لتلزمنا بتجديد البحث في أساس تلك الصداقة وحقيقتها.

لا بديل من اعتبار البشر الذين ملأوا الميادين لشهور من الزمن في هذه الكثرة من العواصم والمدن المنتشرة بين المحيط والخليج حقائق. كانوا ولا يزالون حقائق، مهما تكن عيوب العدّة البصرية التي شاهدناهم بها، ولم يصبحوا أوهاماً عبرت. بل إنهم هم الحقيقة الغامرة وهم القيمة الكبرى التي تؤسس عليها المواقف والسياسات. ولا ينتقص من حقيقتهم هذه أن قوة القمع الموصوفة من هنا واستشراء التسلّح من هناك والنجدة الخارجية للأنظمة وتألّب الدول ذات المصلحة على الحركات الشعبية من هنالك قد ألزمت هؤلاء البشر بالانكفاء عن ساحاتهم وحجبت معظم أصواتهم. لا ينتقص من هذه الحقيقة أيضاً أننا لا نعرف نسبة من حملهم تغيّر الوضع من بينهم على الارتداد إلى انتماءات كانوا قد باشروا خروجاً من قيدها، وعلى تغيير مواقعهم في هذا الاتجاه أو ذاك. لا ينتقص منها، على الأعمّ، أنهم أصبحوا يبدون (أو هم بدوا من البداية) مفتقرين جداً إلى تمثيل سياسي يناسب ما ظهر أنه أحجامهم في أوائل حركاتهم. هذا يترتّب مهمّات يجب أن تكون طويلة النفس، في الأرجح، ولا بد من أن تكون ثقيلة على حامليها. لكن هذا ينبغي ألا يُعمي عن موضع الشرعية من كان متجرّداً للبحث عنه».

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى