البادية السورية: مَنْ يغوص أكثر في الرمال المتحركة؟/ صبحي حديدي
تحت عنوان «هل يدرك ترامب أن استراتيجيته الجديدة تجاه إيران يمكن أن تتلقى ضربة قاضية في سوريا؟»، يطرح جون هانا، في موقع «فورين بوليسي»، الأسئلة التالية على الرئيس الأمريكي:
ـ سيدي، لا يمكن لك أن تعلن الحرب على «الحرس الثوري الإيراني» في تشرين الأول (أكتوبر)، لا لشيء إلا لكي تستدير وتسلّم الشطر الشمالي من الشرق الأوسط إلى الحرس ذاته، في تشرين الثاني (نوفمبر)؛
ـ ويا سيدي، دون لعبة جدية على الأرض، تستهدف بصفة واعية سدّ الطريق أمام الهيمنة الإيرانية في العراق وسوريا، فإنك لن تمتلك استراتيجية جدية لمواجهة التهديد الإيراني للمصالح الأمريكية؛
ـ ويا سيدي، مقاربة التشدد التي أعلنتها بخصوص إيران الشهر الماضي، سوف تُختزل إلى جعجعة فارغة فقط، في منطقة بالغة الخطورة على أمريكا والشرق الأوسط والعالم.
وهذا السائل دبلوماسي مخضرم، شغل مناصب سياسية وأمنية عديدة في رئاسات جورج بوش الأب وبيل كلنتون وجورج بوش الابن، وشمل نطاق عمله شؤون إيران وسوريا والعراق ولبنان وتركيا. وهو، في أسئلته هذه، فضلاً عن مقالات أخرى بات يُكثر من نشرها في الآونة الأخيرة، شديد القلق على حال السياسة الامريكية في المنطقة بأسرها، أوّلاً؛ ثمّ في موقع الولايات المتحدة من معادلات الأرض، الجيو ـ سياسية والعسكرية، في العراق وسوريا تالياً. يقينه العريض يدور حول خلاصتين: 1) أنّ الولايات المتحدة لا تستطيع، وليس مسموحاً لها، أن تمنح إيران منطقة نفوذ مفتوحة في سوريا والعراق، ثمّ لبنان واليمن استطراداً، دون تعريض مصالحها الحيوية لأخطار محدقة؛ و2) على أمريكا، وعبر أدوات محلية قوامها «قوات سوريا الديمقراطية»، «قسد»، أساساً، بسط السيطرة العسكرية على أوسع مساحات ممكنة في محافظة دير الزور، شرق نهر الفرات، وبلدة البوكمال تحديداً، وعلى نحو يكسر مشروع الجسر الإيراني الذي يصل طهران باللاذقية وشواطئ البحر الأبيض المتوسط.
هذا الطراز من الخلاصات لا يندرج في تصنيف المقتضيات الأبسط لأية «مسودة» عملياتية للحدّ من النفوذ الإيراني في المنطقة، فحسب؛ بل هو، إلى ذلك وقبله، أقرب إلى تحصيل الحاصل الذي لا يحتاج إلى «شطارة» خاصة في التحليل والاستبصار، وكلّ ما يلزمه لكي يتضح ــ ويتجسد ميدانياً، ويتكامل على نحو يفقأ الأعين! ــ هو سلّة المعطيات التي لا يحتاج صانع القرار الأمريكي إلى التنقيب عنها، لأنّ إيران ذاتها توفّرها بصفة حيّة ومتواترة ويومية. وقبل أن يطرح أمثال هانا أسئلتهم على سيد البيت الأبيض، كانت ميليشيا «النجباء»، التابعة لـ»الحشد الشعبي» العراقي، التابع للجنرال قاسم سيماني و»فيلق القدس»، التابع لـ»الحرس الثوري» الإيراني… قد دخلت إلى الأراضي السورية، والتحمت مع وحدات «حزب الله» اللبناني التابع لولاية الفقيه… وعلى مبعدة مسافات قصيرة، بعضها مرمى حجر فقط، يلفّ الصمت «حلفاء» واشنطن، ويخيّم خاصة في قاعدة التنف، حيث يدعم البنتاغون اثنتين من أبرز مجموعات المعارضة المسلحة، «جيش أسود الشرقية» و»جماعة مغاوير الثورة»؛ وتُترك لوحدات «قسد» مهامّ بالغة الصعوبة، بعضها خارق للإنصاف، في مواجهة مركّب «داعش» وجيش النظام وخلائط الميليشيات والطيران الحربي الروسي…
لا يحتاج ترامب إلى من يذكّره بخلاصات بديهية مثل هذه التي يسوقها هانا، وسواه كثر في الواقع، لأنها وقائع على الأرض خلّفتها عقيدة أوباما طيلة ثماني سنوات، ولم يحد عنها ترامب إلا لفظياً. كذلك لا يحتاج إلى «وصفة» سحرية تفكّ له ألغاز التناقضات الكبرى الراهنة، الكامنة في صلب السياسة الأمريكية: بين قتال البنتاغون مع «الحشد الشعبي» عبر الجيش النظامي العراقي، والقتال ضدّ «الحشد» إياه على مشارف البوكمال، وربما على تخوم التنف قريباً؛ أو بين مساندة كرد سوريا في الرقة ودير الزور والرميلان ومناطق أخرى في الشمال الشرقي، والتخلي عن كرد العراق وإذلالهم عسكرياً في كركوك. والأرجح أنّ ترامب، رغم كلّ المؤشرات المعاكسة، يمتلك مقدار الحدّ الأدنى من مَلَكة التفكير البسيط، التي تقوده إلى أنّ التشدد مع إيران لا يبدأ من مجابهة إيران ذاتها مباشرة، أو حتى الضغط عليها عبر التلويح بتعليق الاتفاق النووي الشهير؛ وذلك لأنّ إيران، بدورها، لا تقاتل أمريكا مباشرة، بل عبر أدواتها العسكرية، المحلية غالباً، المنتشرة في لبنان وسوريا والعراق واليمن.
وما خلا الصواريخ التي أطلقتها طهران ضدّ بعض مواقع «داعش» في شرق سوريا، أواخر حزيران (يونيو) الماضي؛ مقابل إسقاط الطيران الحربي الأمريكي طائرة مسيّرة إيرانية الصنع، أطلقها النظام السوري في أجواء التنف خلال الشهر ذاته؛ فإنّ التواطؤ الصامت هو سيد اللعبة الميدانية بين واشنطن وطهران، ولا يلوح أنه يسير إلى خرق أو حتى تعديل طفيف. ولعلّ إيران تدرك أنّ الزمن يسير في صالحها: أوّلاً، بفعل تآكل الخيارات الأمريكية، الباقية عند خيارات السنوات السبع التي أعقبت انطلاق الانتفاضة السورية، ثمّ تدخّل إيران ممثّلة في «حزب الله» والميليشيات العراقية الشيعية، وصولاً إلى التدخل الروسي؛ وثانياً، لأنّ مستوى الوجود العسكري الروسي، ثمّ الإيراني، على الأرض في سوريا لا يُجابَه بخيارات هزيلة من جانب أمريكا، على غرار مساندة هذا أو ذاك من فصائل «الجيش السوري الحرّ». ولا تكفيه، في المقابل، طرائق دعم الكرد في سوريا، لأنّ هذه معادلة مسقوفة من جانب تركيا، وليست واشنطن بصدد كسر تحالف أمريكي ـ أطلسي عريق مع أنقرة، من باب خدمة الكرد.
يبقى أنّ ترامب قد ينحني أمام اعتبارين، في الطور المنظور على الأقلّ: 1) ما سيلحّ عليه جنرالات البنتاغون من ضرورة الاكتفاء بحروب الوكالة ضدّ إيران، عبر «قسد» أو فصائل التنف في سوريا، أو عبر تحجيم «الحشد الشعبي» على أرض القتال ضدّ «داعش» في العراق؛ و2) الاستجابة للمشروع الإسرائيلي، القديم الذي يستجدّ دائماً، وتجددت عناصره مؤخراً، في دفع طهران إلى خيارات قصوى غير محسوبة مسبقاً، عبر ضربة عسكرية إسرائيلية لا تستهدف «حزب الله» في لبنان فحسب، بل كذلك مواقع انتشاره على الأرض السورية. وإذا جاز الافتراض بأنّ الاعتبار الأوّل سيحظى بترخيص من ترامب، الذي لا تُعرف له استراتيجية تورّط عسكري، أو استراتيجية مخرج منها في المقابل، منافية لتلك التي اختطها سلفه أوباما؛ فإنّ سوابق عديدة، في الماضي القريب أيضاً، تؤكد أنّ الاعتبار الثاني قد يحظى بترخيص أشدّ، لمسوغات شتى ليس أولها مجموعات الضغط الإسرائيلية، وليس آخرها استنزاف المزيد من عقود الأسلحة مع دول الخليج.
لهذا فإنّ مقترحاً مثل ذاك الذي يطالب واشنطن بالمسارعة إلى استباق إيران في بسط النفوذ على البوكمال، عبر «قسد» أو فصائل قاعدة التنف، ليس مغامرة سياسية غير محسوبة العواقب، قد تفضي إلى مجازفة عسكرية عاثرة، فحسب؛ بل هو خيار مستنفد قد يكون أوانه فات تماماً، خاصة بعد توغل «الحشد الشعبي» في داخل الأراضي السورية، ولقائه مع «حزب الله» وما تبقى من جيش النظام. وهو، في كلّ حال، مقترح يدعو إلى الالتحاق بالمأزق العسكري الذي يعاني منه، للتوّ، التحالف الإيراني، المدعوم روسياً من الجو؛ في أنّ طرد «داعش» من مناطق سيطرتها السابقة لا يعبّد الكثير من الطرق نحو تطويع شرقي سوريا، من جهة أولى؛ ولا يستولد إلا المزيد من النزاعات مع عشائر الفرات والجزيرة، ومجموعات الكرد هناك، من جهة ثانية.
وتلك بطاح باتت سمة كبرى في صياغة معادلات تلك المنطقة عموماً، والبادية السورية خصوصاً، وأخذت رمالها المتحركة تزداد اتساعاً وغموضاً و… إغواءً.
٭ كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي