البحث عن أثر القاتل في زوايا الصور/ عمار المأمون
تداخل الفني مع الوثائقي والجنائي
الجرائم التي ترتكبها الدول أو الأنظمة السياسية تعد أشد أنواع العنف الممارس على البشر سواء كانوا أفراداً أو جماعات، وغالباً ما تكون هذه الجرائم منظمة ومنهجية، وناتجة عن سياسات دكتاتوريّة أو استعماريّة بهدف الهيمنة ونشر الرعب، وبالرغم من أن الكثير من هذه الحالات القاتل فيها معروف من قبل الإعلام ومن قبل الكثيرين ممن شهدوا ما حدث، إلا أن عملية إثبات هذه الجرائم قضائياً تتطلب جهوداً مختلفة عن تلك الصحافيّة، بل تقع على عاتق خبراء ومختصين في العلوم الجنائية والتوثيق في سبيل إدانة القاتل ومحاكمته ولو غياباً، كما تمتلك هذه الجهود قيمة تأريخيّة مرتبطة بتوثيق الانتهاكات والجرائم المرتكبة بحق الإنسانيّة.
تأسست عام 2010 منظمة “العمارة الجنائيّة” التي استضافتها جامعة غولد سميث في لندن، وتضم فريقاً من الباحثين والخبراء في سبيل دراسة وتوثيق وإنتاج الدلائل القانونية على جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان وتقديمها للمحاكم الدوليّة، وحالياً يشهد متحف الفن المعاصر في برشلونة معرضاً بعنوان “العمارة الجنائيّة-نحو جماليات التحقيق”، وفيه تستعرض المنظمة بالتعاون مع عدد من المشاركين من فنانين وخبراء آلية عملها لإيجاد الأدلة والبراهين، وتشرح تقنيات البحث التي تستخدمها معتمدة على قضايا من مختلف أنحاء العالم وخصوصاً أفريقيا والشرق الأوسط، ليتداخل الفني مع الوثائقي والجنائي، ويدخل المشاهد في رحلة يتلمّس فيها عن قرب حقيقة ما تدّعيه وسائل الإعلام الرسميّة، ليكون شاهداً على آثار عمليات القتل التي تمارسها السلطة، وآليات التلاعب التي تمارسها الخلق الحقيقة-الأكذوبة التي تصف ما حدث كجزء من البروباغاندا التي تمارسها لتبرئة نفسها.
يرى القائمون على المعرض أننا نعيش في عالم ما بعد الحقيقة، فما نؤمن به وما نتخذه من قرارات قائم على أساس ممارسات السلطة في التحكم بدفق المعلومات وتقنيات عرضها بما يخدم مصالحها، خالقة “الحقيقة” اصطناعيّة لدى الجمهور بما يبيّض صورتها، وتأتي أهمية المعرض كونه يسلط الضوء على جانب آخر من الحقيقية، تلك التي يتعاون فيها الفنانين والناشطين وعلماء الأدلة في سبيل إعادة بناء الحكايات المنسية والمهمّشة التي تدين الدول والسلطات والجرائم التي ترتكبها ضد الإنسانيّة، إذ ينطلق المعرض مما يسميه بـ”الانعطافة الجنائيّة” التي شهدتها الثمانينات من القرن العشرين في الأرجنتين والدور الذي لعبته العلوم الجنائية في البحث عن مفقودي الحرب القذرة التي قادتها الحكومة الأرجنتينيّة العسكرية ضد معارضيها.
يعرّفنا المعرض على منهجية العمل وآلية معالجة الأدلّة والتعاون مع المعماريين في سبيل تحديد شكل الجريمة وكيف نفّذت بناء على وقائع علمية وشهادات موثوقة، إذ نشاهد وبأحجام كبيرة المجسّمات المعمارية والتصميم ثلاثي الأبعاد، في سبيل إعادة تكوين الحطام وتتبع مسار الشظايا وترتيبها للوصول للأصل، لاكتشاف مصدر القذيفة أو الصاروخ أو غيرها من الأسلحة، إلى جانب تحليل أنواع الرصاص والقذائف المستخدمة والاستفادة من الصور المتوافرة لما قبل ما بعد الحادث في سبيل تحديد مصدر النيران أو القذائف واستثناء تأثير عوامل الطبيعة والتدخل البشريّ اللاحق.
فظائع ارتكبتها الدول والتنظيمات المسلحة
تستفيد هذه التقنيات أيضاً من الشهادات الحية للناجين ومن تعرضوا لعنف من قبل الدولة، إلى جانب الاعتماد على بقايا الجثث والأجزاء البشريّة وتحليلها وتحديد ما تعرّضت له وطبيعته، كما نشاهد محاكمات مختلفة لمتهمين بجرائم حرب، للتعرف على العملية القانونية اللاحقة على التحقيق الجنائي وآليات الإدانة الجنائيّة وطبيعة الدليل ومدى فعاليته قانونياً.
نشاهد أثناء الجولة في المعرض الكثير من النماذج للانتهاكات من مختلف أنحاء العالم كالكاميرون وفلسطين وباكستان، إلى جانب سوريا التي عملت منظمة العمارة الجنائية على التحقيق في جرائم النظام السوريّ، خصوصاً سجن صيدنايا والممارسات الوحشية التي تحصل داخله بالاستناد إلى شهادات من كانوا هناك وتقرير إيمنستي الصادر عام 2016، إذ استخدمت تجارب المعتقلين السابقين وطبيعة الأصوات التي كانوا يسمعونها لبناء السجن من الداخل وتحديد ما يدور فيه من أعمال وحشية، إذ يحوي المعرض عمل تجهيز صوتي قام به عام 2016 الفنان لورنس أبوعدنان، معتمداً فيه على همسات السجناء وكلامهم لتحديد أبعاد السجن وطبيعة التغيرات التي شهدها.
العمل الصوتي يمتد لـ12 دقيقة من التسجيلات الصوتية لشهادات معتقلين سابقين راصداً كيفية كلامهم ونبرهم وارتفاع أصواتهم، مشيراً إلى أن الهمس أصبح أخفض بمقدار 4 مرات منذ اندلاع الثورة في سوريا عام 2011، ومقدار الانخفاض كان 19 ديزبل، وفي توصيف العمل نقرأ أن الـ19 ديزبل المختفية هذه هي العلامة التي تحول إثرها سجن صيدنايا من سجن سياسي إلى معسكر للموت.
بالعودة إلى مفهوم ما بعد الحقيقة نرى أنفسنا في المعرض أمام دلائل وبراهين قانونيّة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها الدول ضد شعوبها، مع ذلك لا ينفي هذا طرح التساؤلات عن مدى مصداقيتها وقدرتها على عكس الحقيقة كما حدثت، فالتقنيات المستخدمة ومناهج إثبات الحقيقة أيضا ذات توجهات سياسية وأجندات خفيّة، فشكل الجريمة يجب أن يتوافق مع الصيغة القانونية الدوليّة التي لا يتفق عليها الجميع، وآلية تشكيل الدليل مرتبطة بحقيقة قانوني سياسيّة تخدم مصالح محددة، موضوعة من قبل ممارسي هذه الانتهاكات أو الداعمين لها، فما يتفق الجميع مثلا على أنه مجزرة أو إبادة عرقيّة وفق القانون الدولي يمتلك خصوصية هائلة، تجعل عملية الإثبات صعبة، فالإشكاليّة لا تكمن في الحقيقة ذاتها، بل بآليات بنائها التي تعيد تكوين حكايات خاصة بها في سبيل إثبات وجهة نظر مسبقة، وهنا نقف عند الحد الفاصل بين السياسي والواقعي، وبين ما يخدم مصالح السلطات والدول المتنازعة وبين ما يخدم الإنسانية وحقوق الإنسان.
كاتب من سوريا
العرب