البحث عن واقعية مفقودة/ حسن شامي
من المفترض أن تكون الذكرى السابعة لاندلاع الحدث السوري الملتهب مناسبة لمراجعة نقدية لتقلبات سنوات الجمر وأهوالها. على أننا نشك كثيراً في توافر الشروط المطلوبة للقيام بمثل هذه المراجعة. لايعود هذا الشك إلى نقص أخلاقي وفكري ولا إلى انعدام الواقعية لدى الراغبين في مقاربة هذا الشيء – الحدث بروحية استقلالية. قد يكون العكس أقرب إلى الصواب. ونعني بذلك كثرة الاستغراق في تقنيات خطابية تُنسب لها صفة الواقعية.
فإذا كان أمراً ملحوظاً أن نسبة المتطلعين إلى النظر النقدي في مداخل ومخارج المحنة السورية قد تزايدت في الفترة الأخيرة، فإن هذا التطلع لا يزال يتخبط، في بيئات المعارضة والموالاة وإن بمقادير متفاوتة، في أهواء التوظيفات العاطفية والانفعالية التي أطلقتها الانتفاضة السورية بغثها وسمينها وبعجرها وبجرها. وكل هذه الأهواء المنتشرة في بيئات الموالين للنظام والمعارضين على حد سواء تعول على صفة الواقعية التي تنسبها لنفسها. الواقعيات انهمرت ولا تزال تنهمر على أرض تفقد واقعياً وحدتها الترابية وعلى بشر بات واقعهم يحمل عنواناً عريضاً هو متاهة الرقص المكابر على حافة الهاوية.
لا ينبغي أن نستغرب هذا التخبط. إذ من الصعب، على السوريين خصوصاً، أخذ المسافة الضرورية لتعقل الحدث نقدياً وبأكبر قدر من الاستقلالية ما دام الجرح يواصل النزف ويستنزف بالتالي مخزون الانفعالات والمشاعر التي تبقى موزعة عموماً على خريطة انقسامات وتقاطعات لا تخلو من التعقيد كما لا تخلو من التقلبات. لنقل إن ما يخشاه الراغب في مراجعة المأساة المفتوحة هو أن يتعرض لمحاكمة أخلاقية قاسية تتهمه بالارتداد أو التنكر أو التخلي عما يعتبره كثيرون موقفاً مبدئياً ونصاباً للشرف والحق. وقد رأينا منذ البداية الكثير من هذه الاتهامات الجاهزة التي كانت تبلغ في أحيان كثيرة درجة التخوين والتآمر والغدر.
قد لا يكون مستغرباً صدور مثل هذه الاتهامات عن أوساط النظام ومتملقيه، إذ تندرج هذه الاتهامات في إطار العدة البلاغية المعهودة في الأحزاب العقائدية عموماً وفي حزب البعث خصوصاً وصراعات أجنحته وشلله من أجل الاستئثار بالسلطة. من مفارقات الأمور، في المقابل، أن تزدهر هذه الاتهامات في بيئات تزعم القطع الجذري مع ايديولوجية النظام ونخبه الأمنية ومع لغته الخشبية وخطابيته الفاقعة.
يمكن تأجيل السؤال عما تعنيه صفة الواقعية فلسفياً. فمن الأجدى أن ننظر في أشكال التعبير المقترحة عن الواقعية. افترض النظام منذ البداية أن الواقعية تكمن في قمع المنتفضين وتمرير بعض الإصلاحات بطريقة لا تهدد ركائز السلطة. واعتبر أن التدخل الغربي المباشر وإملاء الشروط على غرار ما حصل إثر غزو العراق، معطوفين على جولات السفير الأميركي للاطلاع على أحوال الحراك في دمشق وفي غير مدينة سورية، بمثابة مؤشرين واقعيين لابتزازه وتحجيمه. الجواب «الواقعي» لدى جماعة النظام كان التعويل شبه الحصري وغير المسبوق على الحليف الدولي الروسي والحليف الإقليمي الإيراني والقوى الناشطة معه.
كان النظام منذ عهد الأب قد اعتاد على لعبة عدم وضع القدمين في خانة واحدة، مما كان يتيح له هامشاً «واقعياً» من المناورة واللعب على التوازنات والتهديد بنقل القدم من مكان أو معسكر إلى مكان آخر ومنافس. بهذه الطريقة كان النظام يكافئ تسلط أجهزته الأمنية على مفاصل المجتمع والدولة بازدياد أهمية الموقع الجيو – سياسي للبلد على المستويين الإقليمي والدولي. وعزز النظام هذا الموقع من خلال تمسكه بخوض الصراع مع إسرائيل بطريقة خاصة ومضطربة تحتمل التسويات والصفقات والرسائل المؤقتة.
حول هذه النقطة بالذات، لدينا ما يكفي من الأمثلة على استخدام الواقعية استخداماً موارباً وحمال أوجه. فالنظام الأمني والتسلطي الذي أسسه ورسخه الأب توصل إلى خلاصة «واقعية» مفادها أن أقصى ما يمكن أن تفعله سورية، في ظل ميزان قوى غير متكافئ بين العرب والفلسطينيين وبين الدولة العبرية وحليفها الدولي الثابت أي الولايات المتحدة، هو وضع العصي في دواليب أي تسوية تكرس الهيمنة الإسرائيلية ولا تعترف لسورية بالمكانة الإقليمية التي تستحقها. خلافاً لاعتقاد شائع تبدو السياسة السورية في هذا المجال على قدر من الوجاهة. ولا يعني هذا بطبيعة الحال التسليم للنظام بكل ما يفعله، خصوصاً في الداخل وفي علاقة سلطته بالمجتمع وقواه الحية والناشطة.
إن افتراض التطابق بين السياسة الداخلية والخارجية هو من صنع الخيال. فعدم التطابق هو الأكثر حضوراً. وينطبق هذا على الديموقراطيات الغربية وعلى المنظومات الأقل ديموقراطية، كما هي الحال مع روسيا والصين. ويأتي الاعتراف الإسرائيلي قبل أيام بتدمير منشأة لمفاعل نووي في موقع الكبر في دير الزور السورية عام 2007 ليعلن بدوره عن «واقعية» التطلع الإسرائيلي إلى الهيمنة الاستراتيجية على المنطقة. ومع أن هذا الإقرار كشف سراً ذائعاً فإن الرسالة التي توخى التشديد عليها هي أيضاً واقعية جداً، إذ يوجهها إلى الإدارة الأميركية كي تلعب دوراً أكثر عدوانية وعنفاً حيال إيران، وإلا فإن إسرائيل ستتولى الأمر كما حصل قبيل ضرب مفاعل الكبر السوري والمفاعل العراقي قبله.
ثمة رأي شائع في بعض بيئات المعارضة السورية وهو يقوم على أبلسة النظام وبناء المواقف على النكايات. ففي ما يخص مسألة الجولان المحتل هناك من رأى ولا يزال أن المعارضة ستفعل في حال وصولها إلى السلطة ما فعله النظام، أي التمسك بالحق الوطني لاستعادة الجولان من دون الدخول في حرب شاملة. أصحاب هذا الرأي لا يكفون عن اتهام سلوك النظام، حول هذه المسألة بالذات، بالنفاق والكذب والتزوير. والأبلسة التي أشرنا إليها هي لب المشكلة، لأنها تعمي البصر والبصيرة.
وعندما نتوصل إلى خوض الصراعات الاجتماعية والحقوقية من دون أبلسة نكون أقرب إلى السياسة. العكس يعني أننا نخوض الصراعات الحديثة بعقلية قبلية وثأرية مما يجعلنا ما دون السياسة ودون اللحمة الوطنية. هذه الأبلسة الشائعة لا يقتصر استخدامها على جماعة النظام السوري وعلى قسم واسع من معارضيه إذ يشترك فيها كثيرون في أوقات النزاع العنيف. هناك في الغرب من يستخدم ذلك بأسلوب المكيالين لتأجيج العنف وإدامته واستنزاف الخصوم. هذا ما فعلته هيلاري كلينتون كي تصبح الواقعية السورية عبثاً.
الحياة