البطريرك يمثّلهم جميعاً
سليمان تقي الدين
لا يزال تصريح البطريرك الماروني في فرنسا عن الأحداث في سوريا يستثير جدلاً، فالفئات أعلنت مواقفها بهذا القدر أو ذاك من الوضوح، وليس من طرف إلاّ وكانت حساباته لبنانية حتى لو كان يتموضع في موقع إقليمي . مفاجأة البطريرك هي كلامه بالأسود والأبيض عن علاقات الجماعات الطائفية، والإفصاح عمّا يشبه الاستراتيجية التي تحكم المؤسسة الكنسية والجسم السياسي المسيحي .
لا يختلف منظور البطريرك عن منظور كل الطيف الديني والسياسي إلا في حدّة الوضوح والصراحة، ولا يعقل أن المؤسسات الدينية والسياسية المغرقة في المضمون الطائفي، أن تفكر عن سوريا بمضمون آخر، سواء أكانت سوريا تشبه لبنان أم لا تشبهه . دور سوريا وممارستها في لبنان خلال أربعة عقود لم ينزّهها من اللعبة الطائفية، كما أن مستقبل الأوضاع في سوريا بقطع النظر عن طبيعتها الداخلية، تنعكس على لبنان اليوم كتوازنات طائفية . ليس في لبنان السياسي اليوم من يستقبل أي تحوّل ديمقراطي مدني في صيغة ديمقراطية مدنية، فكيف إذا كانت هناك هواجس من مسار سوري غامض حتى لا نجزم سلفاً بنتائجه؟ إذا كان البطريرك يقرأ الحدث السوري من هذه الزاوية اللبنانية الواقعية، فهو لم يخرج عن المنطق السائد، ولم يكسر قواعد التفكير، ولم يذهب أبعد من الآخرين الذين يغلفون مواقفهم بطلاء أيديولوجي مختلف . فأزمة خطاب البطريرك أنها خرجت عن مألوف التمويه الذي قامت عليه الصيغة الطائفية اللبنانية تحت واجهة “العيش المشترك”، وفي أعماقها وأبعادها كانت صيغة “التكاذب المشترك” .
لا يصحّ إذاً، نقد خطاب البطريرك بالمنطق الطائفي المعاكس، فكلا المنطقين أديّا في لبنان ويؤديان في المستقبل إلى النتيجة ذاتها، أي إلى غلبة منطق طائفي على منطق طائفي آخر، والمسيحية السياسية والإسلامية السياسية بفروعها ومدارسها هي الآن في أوج حضورها، وهي مجرد ألوان في الواقع الذي آل إليه مجتمع المشرق العربي من لبنان إلى العراق مروراً بسوريا . لا يفيد إنكار الواقع وتحسين صورته أو ستره بما بقي من “خجل لدى الطوائف”، أو لإسقاط نظرة رغبوية ذاتية تنبع من منظور أيديولوجي مسبق أو عن رؤية غير مطابقة، وليس عيباً الحديث عن الطوائف إلاّ إذا كانت فعلاً قد أصبحت شيئاً من الماضي . أما وأن الطوائف تتجدّد في صور حداثوية وتعيش في تاريخنا الواقعي وليس في خيالنا لأنها شبكات مصالح وليست مجرد عصبيات معنوية، فذلك أدعى إلى فهم منطقها وآليات عملها لتفكيكها وتخطيّها إذا كان هناك من يسعى حقاً إلى تخطيها .
إذا استوى التفكير إلى الصراحة والواقعية، أمكن نقاش استراتيجية الطوائف بما هي أحزاب مسيطرة على مكوناتها البشرية، ويصحّ عندها مساءلة البطريرك في حزبه ومن حزبه ومن أحزاب الآخرين، في ما إذا كان لهذه الجماعات أن تنقذ وجودها أو تحقق طموحاتها كجماعات خارج إطار العيش المشترك ولأهداف فئوية أنانية . وإذا كان ثمة من حقيقة يجب التذكير بها هي أن تجارب الطوائف في أخذ خيارات شبه مستقلة أو منعزلة عن جميع الآخرين، قاد وسيقود إلى النزاعات والحروب مهما كانت المكاسب المؤقتة منها . لا تستطيع الطوائف وقد تحولت إلى أحزاب أو صودرت من أحزاب أن تجد لنفسها الاستقرار والأمن اللذين ينشدهما الكائن البشري ولا طبعاً التقدم والازدهار . فإذا كانت رغبة العيش المشترك أو العيش معاً في حدود كيان سياسي واحد فلا بديل عن صيغة تؤمن الرضى والاقتناع والولاء الثابت لتلك الصيغة ولا يتوافر ذلك إلاّ في إطار مرجعية واحدة هي الدولة، وقاعدة واحدة هي المساواة . لا شيء يقلق في خطاب البطريرك مثل استعادة أو استحضار فكرة الامتيازات الطائفية في السلطة كضمانة للأقليات . هذه الفكرة التي أطاحتها الحرب الأهلية بالنسبة إلى المسيحيين في لبنان، يحاول آخرون اللجوء إليها من أبواب مختلفة وبوساطة أشكال من “السلطة” مختلفة، لأن لبنان في واقعه مجموعة من الأقليات . ولكي يسوّغ هؤلاء واقعية هذا “المخرج” غير المضمون يلجأون إلى التوازن الإقليمي في سعي لتكوين أكثريات في إطار أرحب وأوسع، إِما في خطاب سياسي وإما في خطاب أيديولوجي يجمع مصالح لا يمكن جمعها في واقع الحياة على أساس المتحد الديني أو المذهبي .
ففي خريطة المشرق العربي تتناوب الجماعات المذهبية على مواقع السلطة والامتيازات والحرمان من بلد إلى آخر، هذا المأزق الطوائفي الذي يتجلّى في صور مختلفة من التعبير لدى الفئات اللبنانية كأن يجد في العراق نموذجاً للاستقلال، وفي سوريا مشروع وصاية وتدخل أجنبي، أو أن يجد الإسلام السياسي في مكان غيره في مكان آخر أو مذهب آخر، أو الاستبداد عمالة في مكان ووطنية في مكان آخر، هذا المأزق ينقضه البطريرك في الحديث المباشر عن تحالف الجماعات لإيجاد توازن سياسي سلطوي من غير الاضطرار إلى تفسير يتعدّى كون الآخر يملك نقيضه وهو التشدّد في هويته وثقافته . أي أن المشكلة هوية في مقابل هوية وثقافة في مقابل ثقافة في مجتمع ليس مثقلاً بهموم واهتمامات ومشكلات اجتماعية وإنسانية أخرى كالكرامة والحرية والمشاركة والمساواة والديمقراطية والتقدم . ولأن الشعوب العربية ثارت من أجل أشكال متنوعة من المطالب التي تتقاطع عند فكرة الحرية والكرامة، فليس غريباً أن يكون حراك هذه الشعوب اعتراضاً على كل أشكال الاستئثار الفئوي الاجتماعي أو الطائفي . وليس غريباً أن تلتبس فكرة الأكثرية لدى الجمهور كما تلتبس لدى الخاصة والنخبة، أو تصبح عقبة في وجه التغيير السلمي طالما أن أصحاب الحل والربط لم يجدوا لها وسيلة أخرى . وإذا كان من منطق وراء مطالبة “الأقليات” بضمانات لها، أفليس من المنطق أن تطالب “الأكثريات” بحقوقها؟! فلا مخرج إذاً، إلا بوجود قاعدة مشتركة للعيش معاً واحترام الضمانات كما احترام الحقوق، حيث لم تجد البشرية حلاً أفضل من أولوية علاقة المواطن بالدولة كمدخل لاحترام علاقته بجماعة فوق الدولة أو ما دونها . هذا هو معنى الدولة المدنية .
الخليج