صفحات الرأي

تطرف انظمة الاستبداد يقابله تطرف ‘الجهاديين/ د. سعيد الشهابي

 

 

التطرف: أهو منهج سياسي؟ ام ظاهرة فكرية؟ ام انعكاس لازمة داخلية لدى الفرد او المجموعة؟ ولكي يمكن المساهمة في الاجابة على هذه التساؤلات يجدر النظر الى تجليات التطرف على مستوى الفرد والجماعة. فالشخص المتطرف يتجه تدريجيا للمفاصلة مع من حوله، وقد يصل به الحال الى ترك اقرب الناس اليه. ولكن الظاهرة لا تنحصر بالافراد، بل قد يصبح نظام الحكم ‘متطرفا’ في نظرته لمن حوله، فيصبح قتل الفرقاء هينا عليه، فتصدر احكام الاعدام بحق المناوئين تباعا بدون توقف او حدود.

وهكذا تصبح النتيجة الاولى للتطرف نمو ظاهرة التمزق والتشتت والانعزال، ويبدو الافراد معزولين عمن حولهم من بشر، ويتجه الفرد تدريجيا نحو العزلة الفردية او الجماعية، وتضعف بذلك اواصر العلاقات الانسانية وتتلاشى القيم العامة التي تجمع البشر وتقربهم وتؤلف بين قلوبهم.

وتضيق بالتدريج دائرة المنتمين للتطرف لانها لا تستوعب ذوي التوجهات المختلفة ولا يستطيع المتطرفون استيعاب من يخالفهم الرأي. كما ان الافكار التي تطرحها لا تحظى بقبول الغالبية، لانها تعتبر خروجا على الخط العام المتوافق عليه اجتماعيا او دينيا.

على الصعيد السياسي، تميزت تصرفات بعض القادة بالتطرف من وجهة نظر الآخرين. فالقذافي مثلا كان يطرح افكارا متطرفة، اي خارجة عن السياق العام للسياسة الدولية او العربية. ويمكن اعتبار ‘الكتاب الاخضر’ مصداقا لذلك، فلم يحظ بقبول عام، وان كان البعض ربما رأى فيه افكارا مقبولة. ولذلك لم يستطع ان يحقق الكثير على مستوى التأثير الشعبي سياسيا ام دينيا. وعندما ثار شعبه ضده، لم يدعمه احد، حتى من الانظمة الافريقية التي طالما دعمها ماليا ووقع الاتفاقات معها. مع ذلك لا بد من الاعتراف بان للاعلام العالمي دوره في التأثير على الرأي العام وتسويق اطروحات الغربيين السياسية والفكرية لشعوب العالم الثالث. فاذا وقفت الامبراطورية الاعلامية الغربية مع قضية ما فانها تنتشر وتصبح حديث الساعة في دولها. والاعلام الغربي لا ينفصل في ايديولوجيته السياسية عن قادته، فالمنظومة الغربية تشترك فيها اطراف شتى من السياسيين والاعلاميين ورجال الثقافة ورجال الاعمال. انها اطروحة متكاملة تسمح في داخلها بشيء من التعدد والنقد واختلاف الآراء والمواقف، ولكنها لا تتضارب، ولا يخرج اي من هذه الاطراف عن الخط العام للسجال او مجال الاختلاف.

كما يمكن القول ان التطرف والاعتدال مفهومان نسبيان ومرتبطان بحقبة زمنية محددة. فمثلا كان نيلسون مانديلا يعتبر متطرفا في نظر الغربيين خصوصا امريكا وبريطانيا اللتين وقفتا ضد حركة التحرر السوداء حتى بداية التسعينات. ولكن سرعان ما اصبح في نظرهم رمزا سياسيا عملاقا مع انه لم يغير الكثير من افكاره ومواقفه. واستمرت جنوب افريقيا في عهد مانديلا في التواصل مع انظمة غير صديقة للغرب، مثل ايران وليبيا بسبب دعمهما النضال الوطني في جنوب افريقيا ضد نظام الفصل العنصري. الا ان تعملق مانديلا اجبر الغرب على تجاهل بعض سياسات جنوب افريقيا.

الغربيون ينطلقون في تعريف الاعتدال والتطرف على ارضية منظومتهم الايديولوجية والفكرية. فما خالفها يصنف في خانة التطرف خصوصا اذا كان يطرح مشروعا سياسيا او ايديولوجيا منافسا. فالاسلاميون الذين يحملون ‘المشروع الاسلامي’ يحسبون في القاموس الغربي على خانة التطرف، كما كان الشيوعيون من قبل، لانهم يبشرون بمشروع سياسي يختلف شيئا عما لدى الغرب. وهذا التصنيف يدفع الغربيين اما للتواطؤ مع انظمة الاستبداد العربية لمواجهة اصحاب ما يسمى ‘الاسلام السياسي’ او الصمت على اضطهادهم من قبل تلك الانظمة. ويتجسد الموقف الغربي ازاء اولئك ‘المتطرفين’ بثلاث ظواهر: الاولى توجيه الموقف الدولي وفق ذلك التصور لابقاء هذه المجموعات والحركات والاحزاب مصنفة ضمن حركات التطرف دائما، الثانية:

توجيه اجهزة الاعلام العملاقة التي يسيطرون عليها ضد هذه المجموعات بشكل لا يرحم.

الثالثة: تسليح انظمة الاستبداد على اوسع نطاق، لتصبح هذه الانظمة قوية ومهابة وقادرة على مواجهة شعوبها حين تتحرك من اجل التغيير. وما ذكر مؤخرا حول تزويد السعودية بصواريخ بالستية قادرة على حمل رؤوس نووية مثل صاروخ ‘رياح الشرق’ تطور خطير سيخل بالتوازن الاستراتيجي في المنطقة، ومن المؤكد ان تزويد السعودية بهذا السلاح ما كان ليتم لولا موافقة الكيان الاسرائيلي على ذلك.

حالة التطرف، اذا ظهرت، تقلق الجميع، لانها تنطوي على مخاطر غير قليلة على امن المنطقة واستقرارها. فعندما ظهرت في مصر في السبعينات ما عرف يومها بـ ‘جماعة التكفير والهجرة’ كان ذلك بداية لاضعاف اصحاب مشروع الاسلام السياسي. وكان اعداء المشروع الاسلامي من الغربيين والحكام المحليين يأملون ان تستمر هذه المجموعات لتقف عند الحاجة ضد الحركات التقليدية الاخرى التي ترفع لواء الاسلام السياسي.

وتعدد ظهور الجماعات الاسلامية في مصر ذات التوجه السلفي، ولكنها لم تستطع ان تكون بديلا للاخوان المسلمين. ومن اسباب ذلك تطرف الفكر الذي تطرحه تلك المجموعات مقارنة بما يمكن اعتباره فكرا وسطيا لدى الاخوان.

التطرف هنا لا يخدم اصحابه، فالمجموعات تتشكل بسرعة وتختفي عاجلا بعد ان تفشل في استقطاب الاتباع بسبب عدم رواج اطروحاتها الفكرية والسياسية. وتجربة العراق الذي ينتظر نتائج انتخاباته البرلمانية الثالثة تؤكد عدم توفر الامكانات للفكر المتطرف لانه لا يحظى بقبول

الغالبية الشعبية. وتجربة حركة طالبان في الحكم قبل عشرين عاما ما تزال ماثلة، فلم تمكث كثيرا في الحكم لان اطروحاتها لا تحظى بقبول الجماهير في مجالات الحرية

والتعددية والتداول على السلطة ودور الشعب في تشريع القوانين.

ولكن التطرف لا يقتصر على المجموعات الدينية او السياسية، بل ان الانظمة نفسها تتطرف احيانا خصوصا في تعاملها مع معارضيها، فتؤسس لاسباب سقوطها. فقد يكون الحكم مستبدا ولكن تعامله مع معارضيه يبقى ضمن الاجراءات المتبعة التي تنص عليها القوانين.

وعادة ما تكون الدساتير والقوانين أقل سوءا من الاشخاص الحاكمين. ولكن المشكلة في تطرف اجهزة الحكم وتصرفاتها خارج روح القانون ان لم تكن مناقضة لنصوصه. فحين تبالغ اجهزة الامن في تعقب معارضيها وتنتقم منهم خارج القانون، فانها تؤسس لتطرف سلطوي لا يطاق وتبدأ بذلك محاولات اسقاط ا لنظام.

وما اكثر الحالات التي تجسد فيها التطرف السلطوي بابشع صوره. فحين يطرد القذافي آلاف الفلسطينيين بسبب موقف سياسي لمسؤولي منظمة التحرير ويطردهم من اراضيه بالقوة، فان ذلك تغذية غير مسؤولة للتطرف السلطوي الذي لا يمكن تبريره او الدفاع عنه.

في الاسابيع الاخيرة اصدر النظام العسكري المصري احكاما قضائية باعدام المئات من كوادر الاخوان المسلمين، ليؤكد المنحى الخطير لظاهرة التطرف. فهنا تطرف العسكريون في مسألة رفض التغيير، وسعوا بشكل حثيث للقضاء على اي من مظاهره التي حدثت. فتم التعاطي باسلوب مختلف مع الرئيس السابق، حسني مبارك ونجليه، واعيد العديد من رموز الحكم السابق.

المسألة هنا لا تنحصر بوقف مشروع التغيير، بل بازالة كافة ما ترتب عليه، فكأن هناك ‘كفرا’ بما حدث واصرارا على تخليص البلاد والعباد منه. ولا يمكن تفسير ذلك الا بالرغبة في الانتقام، الامر الذي لا يستقيم مع روح القانون العادل.

ان ما فعله عسكر مصر ‘تطرف’ في معاملة المناوئين، لا يستقيم ابدا مع نهج الاعتدال او حكم القانون او اقامة المجتمع المستقر.

وحين تقوم العائلة الحاكمة في البحرين بسحب جنسيات العشرات من مواطنيها وابعاد بعضهم عن مسقط رأسهم، فان ذلك نوع من الانتقام الذي يؤسس لتطرف مضاد يستهدف النظام ويعمل لاقتلاعه بسبب القناعة التي ترسخها الممارسات القمعية المتواصلة باستحالة اصلاح ذلك النظام. وتعذيب المواطنين او سحب جنسياتهم او ابعادهم ممارسات تؤكد ظاهرة ‘التطرف’ لدى النظام السياسي العربي، الامر الذي قد يؤدي الى ‘تطرف’ من معارضيه.

العنف يولد العنف، والتطرف يؤدي الى التطرف، والظلم قد يواجه بظلم، وهكذا فان لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويخالفه في الاتجاه.

وقد قامت ثورات الربيع العربي لتحقيق امرين: انهاء تطرف الانظمة السياسية التي ما برحت جاثمة على صدور المواطنين، وتهميش ظاهرة التطرف لدى حركات ‘الاسلام الجهادي’ التي ما برحت تطرح خطابا مرفوضا من مجموعات ‘الاسلام السياسي’ الاكثر اعتدالا وواقعية ووضوحا في مشروعها التغييري. وهذا ما لا يريده مناوئو الاسلام السياسي من الغربيين ووكلائهم من الحكام المحليين.

‘كاتب وصحافي بحريني يقيم في لندن

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى