البعد التراجيدي لحال العلويين
وائل السواح
في السبعينات من القرن الماضي، كان حي الـ «86»، الذي تم تفجير سيارة مفخخة فيه الشهر الماضي، والمتربع على إحدى التلال المحيطة بحي المزة الدمشقي، عبارة عن جبل أجرد تحتله ثكنة عسكرية لِما كان يعرف باسم «سرايا الدفاع» التي قادها رفعت الأسد، شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد، وهو من تحمل له ذاكرة السوريين اسوأ الذكريات. في مطلع الثمانينات، وبعد انتصار النظام الدموي على حركة الإخوان المسلمين، سمح رفعت لرجاله بأن يبنوا لأنفسهم غرفاً للإقامة. وسرعان ما أحضر الجنود، وكانوا في غالبيتهم العظمى من العلويين، زوجاتهم وأبناءهم فأسكنوهم بيوتاً من اللبن والصفيح، وجروا لهم الماء والكهرباء من الشبكة العامة، وبنوا أنظمة بدائية للمجاري تصب في وادٍ قريب من الجبل.
اليوم، يحتضن الحي نحو مئتي ألف نسمة، وبدل بيوت الصفيح، صارت هنالك بنايات بعضها من خمسة طوابق، ولكنها مبنية بعقلية بيوت الصفيح، من دون ترخيص، وتستجر الماء والكهرباء في شكل غير شرعي، وتطل على شوارع وأزقة ضيقة، لا تسمح للسيارت الكبيرة كعربات الاطفاء وسيارات الاسعاف بالمرور عند الضرورة لإطفاء حريق أو إسعاف مريض.
ومع أن العلويين لا يزالون غالبية القاطنين اليوم، فنسبة من الطوائف الأخرى بدأت تختلط مع السكان، وتشكل قسماً لا بأس به منهم. يعمل سكان الحي عموماً في الجيش والأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة والمدارس والصحافة والإذاعة والتلفزيون، صحافيين ومدرسين وممثلين وفنيين وعمال تنظيفات وحراساً نهاريين وليليين. وإلى ذلك، ثمة عدد كبير من سكان الحي يعملون في دكاكين بقالة أو حلاقة أو بيع هواتف محمولة، لا تزيد قيمة محتوياتها عن ألفي دولار، ومعظم الأوقات يجلس أصحابها خارج المحل يشربون المتة ويلعبون طاولة الزهر لعدم وجود طلب على البضاعة.
بدأت الهجرة من الريف إلى المدينة منذ الستينات، وهي تشبه غيرها في معظم الدول النامية كالهند والبرازيل ومصر. وكان انقلاب 8 آذار (مارس) 1963 نقطة تحول كبيرة في حياة أبناء الريف، فقد أوصل الانقلاب حزب البعث الذي كان يضم أساساً الفئات الريفية التي تعلمت وهاجرت إلى المدينة، فالتحمت مع مثقفي الطبقة الوسطى المدينية. ومن هذه الفئات، شكَّل العلويون نسبة لا بأس بها، بدأ نفوذها بالتزايد بعد انقلاب 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 1970 الذي أوصل الرئيس حافظ الأسد إلى السلطة وأبقاه فيها حتى وفاته.
ومن الثابت أن أبناء الريف عموماً والعلويين خصوصاً عانوا تمييزاً قائماً على التمايز بين الريف والمدينة أكثر من كونه طائفياً. وكان الفقر والمرض والأمية منتشرة بكثرة في مناطق جبالهم. ولا شك في أن أبناء المدن كانوا ينظرون بدونية إلى سكان الريف عموماً، وغالباً ما كان أفقر سكان المدن يأنف أن يزوّج ابنته لـ «فلاح،» ويفضل إبقاءها في البيت.
في الستينات، بدأ نوع من التحول على مختلف البنى، وصعد إلى قمة السلطة للمرة الأولى رجال أقوياء من الريف. ومع القادة العسكريين والأمنيين والحزبيين، توافدت إلى المدن أعداد بدأت تكبر من أبناء الريف الذين صاروا يحتلون وظائف كمدرسين وموظفين في الإذاعة والتلفزيون والصحافة ودوائر السجل المدني والوزارات والمديريات العامة للبيروقراطية. لكن الأهم والأعم كان انضمام أعداد هائلة من ابناء الريف عموماً في البداية ومن ثم الريف العلوي خصوصاً إلى الجيش وأجهزة الاستخبارات المختلفة. وإذا تحدثنا بلغة الأرقام، توجب علينا الاعتراف بأنهم يشغلون في الوظائف العامة نسبة أعلى بكثير من نسبتهم الديموغرافية الحقيقية في البلاد.
وطاول التغيير، في ما طاول البنية الثقافية، فصارت نسبة العلويين من أساتذة الجامعات والصحافيين والشعراء والفنانين أكبر بكثير من نسبتهم في المجتمع. لكن مع التغيير الذي جرى منذ تسلم الرئيس بشار الأسد لمقاليد الحكم، والذي هوى بالطبقة الوسطى عموماً، وهمّش قطاع الدولة، وضيّق مجالات عمل القادمين الجدد من الريف، حدث تحول في مجال عمل الوافدين: من المحاماة والتدريس والصحافة إلى الخدمة وتنظيف الشوارع والحماية الشخصية وأعمال المياومة، أو العطالة المقنعة.
وغالباً ليس لسكان الـ «86» وغيرهم من أهالي الريف الذين نزحوا إلى المدن بيوت في قراهم، وليست لهم أراض زراعية، فالبيوت والأراضي (محدودة أساساً في الجبال) ضاعت في عملية تقسيمها المتوالي بين الأبناء عبر الأجيال. كما أهمل النظام مناطق العلويين التي لا تزال حتى اللحظة فقيرة تعوزها التنيمة ووسائل الراحة والمدنية. وملايينهم الذين يعيشون في المدن إنما يعيشون في وهم المدينة، فالغالبية العظمى منهم تعيش على هامشها وليس فيها، في مناطق عشوائية تحيط بها ولا تندمج.
لقد فاجأت الثورة سكان الـ «86» وكل أحزمة البؤس المحيطة بدمشق، كما فاجأت أهل دمشق أنفسهم. ومنذ اللحظة الأولى، اتخذ معظم العلويين في المدن والقرى موقفاً معادياً لها، لأن النظام أفلح منذ اليوم الأول للثورة في كسبهم عبر ترويعهم من أن الثورة إن نجحت فستبيدهم أو تطردهم من وظائفهم وبيوتهم.
وحيــــث أفلح النظام أخفقـــــت المعارضة، فلم تقدم حتى اللحظة تصــــوراً ملموساً لحل مشكلة الحساسية الخاصة بين الغالبية السنية والأقليــات عموماً، وبخاصة العلويين. ولننسَ الشعارات المجردة التي ترفعها بين الفينة والفينة قوى المعارضة من أن الشعب السوري واحد، فليس المهم العموميات وإنما البرامج الحقيقية. وأهم من صوغ البرامج تطبيقها. وقد فشلت المعارضة بكل مكوناتها في ذلك.
تقوم التراجيديا الإغريقية على فكرة أساسية مؤداها أن الفرد لا يستطيع الهروب من مصيره. فالملك اوايديبوس حاول الهرب من نبوءة تقول انه سيقتل أباه ويتزوج أمه، ولكن محاولته للهروب من القدر كانت بالذات السبب الذي قاده اليه. وبعض الجماعات البشرية محكومة بالقاعدة نفسها. والعلويون يمكن أن يكونوا مثالاً عملياً على ذلك. فمعظمهم في موضع لا يمكنهم فيه إلا أن يؤيدوا النظام بسبب تخوفهم من فقدان ما يتوهمون أنه امتيازات طائفية لهم، وهذا يبقى ما لم تتواصل معهم قيادة المعارضة من أجل اتفاق حقيقي على أساس مبدأ المواطنة والحق في الحياة والعمل والتنقل والمساواة المطلقة في الدستور والحفاظ على المصالح الأساسية. ولكن حتى الآن، لا يبدو أن المعارضة بدأت تتلمس ذلك، وخطاب السيد معاذ الخطيب في مراكش دليل على ذلك.
الجياة