البهجة الفوضوية
محمد أبي سمرا
في خضم سكرات النشوة الأولى بالثورات العربية، وشمت شاعرة لبنانية شابة رقم 2011 على معصمها، لتُبقي ذكرى تلك النشوة مطبوعة على جلدها، فيما كتب الناشط والكاتب المصري أشرف الشريف على صفحته في الـ”فايسبوك” مقالة عنوانها “المجد لسياسات الفنفنة”، في مديح السلوك الإحتفالي الإستعراضي الذي يتبعه شبّان “الإلتراس” حينما تأخذهم نشوة حسيّة جماعية أثناء احتشادهم على مدرجات ملاعب كرة القدم في مصر، وفيما هم يجابهون بالنشوة الاحتفالية نفسها عنف أجهزة الأمن المصرية في الشوارع. الوشم الاحتفالي الشخصي على الجلد تخليداً لعام الثورات، وتمجيد سلوك شبّان “الإلتراس” في مرآة الثورة المصرية التي ساهموا فيها، ينطويان على شكل فني جسماني في التعبير عن البهجة بالحدث الكبير. الفنيّة هذه – شأن الاحتشاد والتظاهر ورسوم الغرافيتي والهتافات والشعارات والأغاني وأشرطة الفيديو والعبارات المبثوثة على الشبكة الإلكترونية العنكبوتية – لازمت الثورات العربية منذ انطلاق شرارتها المنتقلة من بلد الى بلد.
اليوم، بعد سنتين على انطلاق الشرارة، تتناسل تلك البهجة وتتسع وتتحول مذهباً جديداً في التفكير والفعل والتعبير والعمل والسلوك والتواصل في أوساط مجموعات شبابية واسعة في بلدان الثورات وسواها. يستوحي هذا المذهب أو يستعيد صور الحركات الفوضوية التحررية العالمية، كأنه يقول إن الثورات العربية الراهنة التي بادرت اليها الأجيال الشابة من دون قيادة ولا تنظيم، واستعملت الفضاء الإلكتروني الشبكي المشرع بلا حدود أداة تواصل لاحتلال الشوارع والميادين، هي ثورات تحررية تنطوي على بعد جسماني وتستعصي على التأطير السياسي، ومشرعة على الفعل والممارسات الثورية الفوضوية اللصيقة بالتعبير الفني وبأنماط من التعارف واللقاء والعيش والعلاقات الأفقية الحرة اللاسلطوية والعارية من الإيديولوجيا. هذه كلها تنهل من الفوضوية والإباحية والبوهيمية والسوريالية في أوروبا أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وصولاً الى حقبة ما بين الحربين العالميتين.
إنها النشوة الشبابية التحررية الفوضوية، ردّاً على الاستنقاع والخواء والموات في مجتمعات الحزب الواحد والدولة السلطوية المدمرة للمجتمع. وذلك لضخ حيوية جديدة طازجة في الركام الاجتماعي الذي هزّته الثورات وأخرجته عارياً من مستنقع التسلط المديد. في هذا الإطار ظهرت أخيراً “المجموعات الأنركية” (الفوضوية) وصفحاتها على الـ”فايسبوك”: “الحركة الاشتراكية الثورية” في مصر، “الحركة السورية النسوية الأنركية”، “أنركيون سوريون”، و”راديكال بيروت”. تأصيلاً لهذه الحركات كتب سامح سعيد عبود (المصري) على موقع “الحوار المتمدن” أن “الحركة الاشتراكية الثورية” نشأت في أواسط القرن التاسع عشر، لتشكل العمود الفقري للحركة الأنركية، بمدارسها المتناقضة” التي “برز فيها دور الأنركيين في كومونة باريس 1871، وفي الثورة الروسية 1917، والثورة الاسبانية 1936، (وصولاً الى) حركة مناهضة العولمة والحرب في بداية القرن الحالي”.
قد تكون الحركات الاحتجاجية التي يشكل الفتيان والشبان مادتها الرئيسية في المدن المصرية، هي النموذج الأبرز للحركة الفوضوية المنبعثة من مخاض الثورات العربية. الحركة هذه مثالها المحلي في مصر حركة “الإلتراس” التي استلهمها شبّان مجموعات “بلاك – بلوك” (الكتلة السوداء) وفتيانها. وهي ولدت ردّاً على العنف الذي مارسه “الإخوان المسلمون” ضد المعتصمين حول “قصر الاتحادية” الرئاسي، غداة إذاعة الرئيس محمد مرسي إعلانه الدستوري. وقد سبقت ولادة “بلاك – بلوك” حملات احتجاجية عدة، منها “عسكر كاذبون”، “إخوان كاذبون”. اللافت في الحركات والحملات هو تلك الفجوة القائمة بينها وبين الجسم السياسي المؤتلف في أحزاب “جبهة الانقاذ” المعارضة لحكم “الإخوان المسلمين”. في هذا المعنى تصرّ الحركة الفوضوية على اعتبار أنها حركة تتجاوز السياسة وتتخطاها، وتخرج على التأطير السياسي الحزبي، الى الفعل الحر المباشر، السيّال والمستقل والمشرع على الغارب من دون حدود. قد يكون هذا ما حمل “جبهة الإنقاذ” أخيراً على “النأي بنفسها” عن تلك الحركة التي تأبى التوقف عن الاحتجاج والصدام مع قوات الأمن في الشارع، كأن احتجاجها يحمل في طياته غريزية جسمانية أطلقتها الثورات من عقالها.
إلى ذلك تبدو مجموعات فتيان الحركة الفوضوية وشبانها أقرب إلى ظاهرة شبه مسرحية في سلوكها وأزيائها وأساليب عملها. المسرحة هذه مصدرها صناعية هذه المجموعات وشبكتيها المنفلشة، الآنية، والمغفلة، على مثال شبكية التواصل عبر الفضاء الالكتروني الافتراضي. ويشكل غياب الهوية الجمعية العضوية عن نشوء المجموعات وتعارفها وعملها، ركناً اساسياً في حضورها المسرحي في الشوارع. وقد بدا هذا واضحاً في أزياء مجموعة “بلاك – بلوك” وحركتها أثناء تظاهرات الذكرى السنوية الثانية للثورة المصرية.
النهار