التحديات المقبلة التي تواجه المعارضة في سورية/ يزيد صايغ
أثارت المكاسب الأخيرة التي حققتها المعارضة المسلّحة لنظام الرئيس بشار الأسد، تكهّنات من جديد بأن سقوطه بات وشيكاً. لكن على الرغم من أن من المحتمل أن يحرز مقاتلو المعارضة المزيد من التقدّم في الأشهر المقبلة، وخاصّة في درعا في الجنوب وربّما في حلب في الشمال، فإن التحدّيات التي تواجههم سوف تزداد مع كل مكسب يحقّقونه. فمع اتّساع رقعة المناطق وعدد السكان الذين يخضعون لسيطرتهم، سيكون لزاماً عليهم إثبات مستوى أعلى بكثير من التنسيق العسكري والمهارات السياسية والقدرات الإدارية. وما لم يتحسّب المتمردون والقوى الخارجية الداعمة لهم لهذا الأمر ويستعدّوا له بصورة فعّالة، فقد يعود الصراع السوري مرة أخرى إلى طريق مسدود.
من الناحية العسكرية، فإن انسحاب قوات النظام من بعض الجبهات يتيح لها إمكان اختصار خطوط الإمداد والاتصال وإنشاء خطوط مواجهة جديدة قد يكون الدفاع عنها أسهل. ويبدو أن النظام يتعمّد تقليص المناطق الخاضعة لسيطرته، ويركّز على المناطق المدنية ذات الكثافة السكانية العالية التي لا يزال 50 الى 60 في المئة من مواطني سورية يعيشون فيها. وقد يساهم هذا الانكماش في زيادة العبء الإداري والاقتصادي للحفاظ على الخدمات الأساسية وتأمين الإمدادات الغذائية ما سيرهق النظام ويزيد الضغوط الاجتماعية والسياسية عليه داخلياً ويجعل مستقبله على المدى الطويل في مهبّ الريح. ولكن في الوقت نفسه، سيصبح المضي قُدُماً أكثر صعوبة بالنسبة الى مقاتلي المعارضة وهم يحاولون التقدّم من المناطق التي لهم أفضلية فيها، بما في ذلك حول حلب ودرعا، إلى ما تبقى من المناطق التي لا تزال تحت سيطرة النظام.
غير أن التحدّي الحقيقي الذي يواجه المعارضة في سورية هو تحدّ اجتماعي وسياسي، فقد قاتلت بصورة أساسية على أرض صديقة حتى الآن، في الريف وفي مناطق الهجرة الريفية الحضرية، التي يقطنها سكان محليون يتعاطفون معها إلى حدّ بعيد. فلم ينتقل المعارضون من القتال والسيطرة في القرى والبلدات الكبيرة وبعض المدن الرئيسة في المحافظات التي تمثّل الحاضنة الاجتماعية الطبيعية لهم، أي العرب السنّة وذوي الأصول الريفية. ذلك أن التجانس الاجتماعي النسبي هو الذي مكّن مقاتلي المعارضة من البقاء على قيد الحياة وفي نهاية المطاف التماسك والتوسّع داخل محافظاتهم الأصلية، على رغم سوء التسليح والتدريب والفِرقة، ولكنهم سيواجهون من الآن فصاعداً سكاناً يختلفون إلى حدّ كبير في تنوّعهم الطائفي والطبقي والاجتماعي والثقافي الحضري. ولذا فإن الحصول على دعم فعّال من هؤلاء، أو على الأقلّ ضمان حيادهم وانصياعهم، يتطلّب وجود مهارات سياسية وقدرات إدارية على تنظيم المناطق الحضرية لم تظهرها المعارضة حتى الآن.
يتمتّع مقاتلو المعارضة بميزة كبيرة تتمثّل في حجم ومدى معارضة نظام الأسد في أوساط السوريين. فحتى أولئك الذين يخشون استيلاء المعارضة على السلطة ليس لديهم تعاطف أو اقتناع حقيقي يذكر تجاه النظام. غير أنه لا يمكن المعارضين اختراق الحواجز الريفية-الحضرية أو الطبقية أو الطائفية من دون أن يظهروا قدرة على بناء تحالفات موثوقة وواسعة ومتنوّعة سياسياً. فقد أصبحت أطر وفصائل المعارضة السياسية المختلفة، سواء تلك التي في المنفى ممثّلة في «الائتلاف الوطني» أو التي في داخل سورية، هامشيّة جداً ولا رصيد سياسياً لها كي تلعب مثل هذا الدور في بناء الجسور. وعلى سبيل المقارنة التاريخية، لم يكن انتصار الثوار الكوبيين بقيادة فيدل كاسترو ودخولهم العاصمة هافانا في العام 1959 ممكناً إلا بفضل انتفاضة المنظمات العمّالية والحزب الشيوعي وأطياف واسعة من الطبقات الوسطى الحضرية. وهذا لن يحدث في سورية.
إذا كان المعارضون السوريون يرغبون في إحراز اختراق سياسي لدى دوائر اجتماعية أوسع، أو الحصول على القدر الأكبر من المساعدات الخارجية التي سيحتاجون إليها بشدّة في حال التمدد، فإن عليهم التصدّي لثلاثة شواغل رئيسة قادمة: الأول هو توفير الأمن، فعمليات حفظ النظام البدائية وتوفير الشرطة المحلية والعدالة القائمة على الشريعة بالكاد كانت كافية في مناطق المعارضة، حيث الاحتياجات بسيطة نسبياً. أما حماية الأرواح والممتلكات مستقبلاً من الهجمات الانتقامية وعمليات النهب في المناطق الحضرية التي تقطنها فئات سكانية مختلفة اجتماعياً ومعادية أو غير مناصرِة سياسياً سيتطلّب مقداراً أكبر من الوحدة والانضباط، ويشكّل تحدّياً أكبر. فالفشل في مكان واحد يجعل المعركة من أجل مكان آخر أصعب بكثير، ويزيد التكاليف الاجتماعية والاقتصادية لتحقيق المصالحة وإعادة الإعمار على المدى الطويل.
ثانياً، سيكون لزاماً على المعارضة ومنظمات الإغاثة التابعة لها والمجالس الإدارية أن تثبت قدرتها على تقديم الخدمات للأعداد المتزايدة من الأشخاص الذين يخضعون لسيطرتها. وسيشمل هذا على نحو متزايد المهجرين في الداخل الذين يتركّزون في البلدات والمدن الكبيرة، وهم ضعفاء ومحتاجون أساساً، وسكان المناطق الحضرية التي تعتمد عادة على المناطق الريفية أو الأسواق الخارجية لتصدير المواد الغذائية. وبالتالي فإن ازدياد الحاجة إلى الغذاء والوقود والإمدادات الطبية في الخريف والشتاء المقبلين يجعل التوسّع الكبير في القدرات الإدارية أمراً حيوياً، غير أن ذلك يعتمد على وجود مستويات أعلى من التنسيق السياسي بين أطياف المعارضة. غير أن العلاقات بين الحكومة الموقّتة لـ «الائتلاف الوطني» التي تتّخذ من غازي عنتاب في جنوب شرق تركيا مقراً لها -والتي توشك على الإفلاس المالي في الوقت الحالي-، وجماعات المعارضة سيئة في شمال سورية وشبه معدومة في الجنوب.
ثالثاً، لم يؤسّس المقاتلون ولا المعارضة السياسية ولا مجالسها الإدارية المحلية عموماً، نظاماً مالياً عاماً شاملاً ولم يقاربوا الإدارة الاقتصادية على المستوى الإقليمي، ناهيك عن المستوى الوطني. والواقع أنهم لم يضطروا لذلك. فمن جهة، يعتاش معظم جماعات المعارضة على فرض الضرائب والرسوم على حركة المركبات والبضائع على المعابر الحدودية مع دول الجوار أو عند نقاط التفتيش الفاصلة بين مناطقهم ومناطق سيطرة النظام أو تنظيم «الدولة الإسلامية»، وعلى التمويل الخارجي. ومن جهة أخرى، تُرِكت الإدارة الاقتصادية للمجتمعات الريفية التي يمكن أن توفّر إلى حدّ كبير احتياجاتها الأساسية، والمجتمعات الحضرية التي تتلقّى تدفّقات التحويلات المالية والمساعدات الدولية من الخارج وما تبقّى من الخدمات والرواتب من النظام. غير أن من المستبعد أن تزيد هذه التدفّقات بما يكفي لتلبية الاحتياجات الجديدة إذا تزايدت بسرعة، ولن تكون سياسة عدم التدخّل في الإدارة المالية والاقتصادية المحلية كافية إذا حقّق المتمرّدون طموحاتهم في اقتحام المناطق الرئيسة التي يسيطر عليها النظام.
والواقع أن هذه التحدّيات لا تزال بعيدة. صحيح أن النظام يتراجع، غير أن كل ما يحتاج إليه في الفترة المقبلة هو ألاّ يخسر. وعلاوة على ذلك، يزداد الوضع تعقيداً بسبب الحضور الذي يخيم في الأفق لتنظيم «الدولة الإسلامية»، والذي يستعد للاستفادة إذا وفّر إضعاف النظام فرصة للاستيلاء على أراضٍ ومراكز سكانية جديدة. ذلك أن خطر تنظيم «الدولة الإسلامية» يحصر خيارات المعارضين، ويؤدّي إلى إبطاء تقدمهم المحتمل.
قد يكون هذا خبراً ساراً. فهو يجبر المعارضين على التركيز على الإعداد لمواجهة التحدّيات المقبلة، وعلى إرساء الأسس السياسية اللازمة لبناء جبهة أوسع. كما أنه يواجه داعميهم الإقليميين، الذين لم يتمكّنوا من تنسيق جهودهم لدعم تحالفات صغيرة نسبياً من المقاتلين الإسلاميين في الشمال والمقاتلين المعتدلين (حسب التسمية الشائعة) في الجنوب إلا في الآونة الأخيرة، بضرورة العمل على مستوى أعلى من التنسيق والحنكة السياسية وتخصيص المساعدة المالية والدعم الفني للحوكمة الإدارية والاقتصادية على نطاق أوسع.
قليلة هي جماعات المعارضة التي أظهرت وعياً بهذه الاحتياجات المقبلة. فقد نشرت الجبهة الجنوبية، على سبيل المثال، خطتها لاستعادة الدولة الفاعلة، فيما قدمت بعض الجهات السياسية المعارضة مقترحاتها الخاصة بتنظيم المرحلة الانتقالية في سورية. كما تمثّل الجهود الجارية من جانب مجلس التعاون الخليجي لجمع المعارضة في جبهة واسعة خطوة ضرورية أخرى في الاتجاه الصحيح. غير أن كل هذا لا يزال أقلّ من مستوى بناء التحالفات السياسية التي يجب أن تتوسّع عبر الخط الفاصل الحالي للصراع السوري، وأقل من حجم الاستثمار السياسي والمادي في بناء الوسائل اللازمة لإدارة ما ستكون بالتأكيد مرحلة انتقالية معقّدة ومكلفة جداً. وحتى ذلك الحين، وما لم يتم التوصّل إلى صفقة دبلوماسية تنهي الصراع المسلح، سوف تنزلق سورية مجدداً إلى مرحلة جمود واستنزاف استراتيجي طويلة وضارّة لكلا الطرفين.
* باحث أول في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت.
الحياة