التدوين بالحديد/ عزيز تبسي *
في سياق الحلول المتعددة للتحديث في الإمبراطورية العثمانية، مقترحات وقوانين ومبادرات شملت الجيش والتعليم والزراعة والبريد والقضاء.. أتت الطرق المعبدة وسكك الحديد لتسهيل وتسريع نقل المسافرين والبضائع والجنود والمعدات العسكرية بين الولايات العثمانية المترامية الأطراف.
عام 1890، في استهلالها، منح السلطان عبد الحميد الثاني السيد “يوسف مطران” امتيازاً لمد خط حديدي بين دمشق وبحيرة المزيريب قرب درعا، وحملت شركته اسم “الشركة الحديدية الاقتصادية في سوريا”، (ومطران رجل أعمال من منطقة بعلبك في لبنان، لعب دور الوسيط للتمويه على الشركة الحقيقية التي ستنفذ المشروع، ولم يلبث أن باع الرخصة للشركة المنفذة، ولعب مثل هذا الدور في مشروع توسيع واستثمار مرفأ بيروت 1888). ومنح السلطان بعدها في 1891 السيد حسن بيهم امتيازاً لتمديد واستثمار خط حديدي بين بيروت ودمشق نفذته عام 1903 شركة فرنسية “الشركة المساهمة العثمانية لخط بيروت – دمشق” (وبيهم من وجهاء بيروت، لعب دور الوسيط للحصول على التراخيص من الدولة العثمانية بوصفه ممثلاً لشركة فرنسية). وفي عام 1892 اندمجت الشركتان في شركة واحدة “شركة الخطوط الاقتصادية العثمانية بيروت ـ دمشق – حوران”، وحصلت بعد ذلك على امتياز مد خط حديدي من دمشق الى حمص ثم حماه وحلب، ليصل إلى مدينة “بيرجك” على نهر الفرات، وصار اسم الشركة “الشركة العثمانية للخط الحديدي شام ـ حماه وامتدادها”، وتثبيت كلمة امتدادها بعد ذكر المدن هو للدلالة على قابلية مشروع الخط الحديدي للتوسع، حتى يدرك غايته بربط المشرق العربي بشبكة الخطوط الحديدية.
حدد في البداية أن تكون دمشق هي منطلق الخط الحديدي إلى حلب، قبل اعتماد بلدة “رياق” في لبنان كمحطة رئيسية، تم وصل خطوط سكة الحديد دمشق – بيروت إلى “رياق” ليتابع منها القطار باتجاه حماه وحلب.. وصلت الخطوط الحديدية في عام 1902 الى حماه وتأخرت ثلاث سنوات لتبدأ عمليات إكمالها الى حلب بطول 143 كلم. وكان المخطط لهذه السكك أن تتجه جنوباً إلى بلدة العريش في مصر، وتمتد إلى السودان حتى تصل باب المندب.
تم تدشين الخط الحديدي في 4 تشرين الأول/اكتوبر 1906، وأقيم له احتفال في محطة الشام حضره والي الولاية ورجالات الجهازين الإداري المدني والعسكري، والعديد من رجال الدين والأعيان والألوف من الناس.
اقتنع السلطان عبد الحميد الثاني، بعد سجالات مطولة، بضرورة تأمين خط حديدي يربط اسطنبول بمكة، ويصل في نهايته إلى صنعاء في اليمن. هدف السلطان والجهات الألمانية التي ساهمت في إقناعه، الى تسهيل طريق الحج، وتسريع عمليات نقل الجيوش والعتاد الحربي، وكسر احتكار البريطاني الذي يسيطر على ملاحة قناة السويس، الطريق البحري الأسهل والأقل كلفة للوصول إلى الحجاز واليمن. أعلن السلطان عن المشروع في نيسان 1900، وافتتح التبرعات لتغطية تكاليفه المالية، متبرعاً بثلاثمئة وعشرين ألف ليرة عثمانية ذهبية، وتبرع شاه إيران بخمسين ألف ليرة ذهبية، وخديوي مصر بكميات كبيرة من الأخشاب ومواد البناء، وتبرع أهالي حلب بما يزيد عن ألفي ليرة عثمانية ذهبية. بدأ عام 1900 تمديد الخط الحديدي الحجازي الواصل بين دمشق والمدينة المنورة، وحصل على امتيازه الألمان. وصل الخط إلى درعا عام 1903 وتفرع منها إلى خطين، الأول باتجاه مدينة حيفا في فلسطين، والثاني باتجاه مدينة عمان في الأردن.. ووصل الخط الحديدي إلى المدينة المنورة عام 1908. وجاءها أول قطار قادماً من دمشق في 22 آب/ اغسطس 1908، برحلة استغرقت خمساً وخمسين ساعة. ولم يكتمل المشروع الذي رسم له ليصل إلى مدينة جدة في الحجاز ومدينة عدن في اليمن.
سكة حديد بغداد
منح السلطان عبد الحميد الثاني امتيازاً لشركة استثمارية – شركة خطوط الأناضول – وهي شركة مساهمة، أصحابها من جنسيات مختلفة ألمانية وفرنسية وإنكليزية وغيرهم، حق إنشاء واستثمار خط حديدي، ينطلق من أوروبا ويصل إلى الخليج العربي، لتسهيل تبادل البضائع والمواد الأولية. وحددت مدة الامتياز بتسع وتسعين عاماً، واشترطت أن تكون سرعة القطار خمسة وسبعين كيلومتراً في الساعة، حمل بعد ذلك اسم “قطار الشرق السريع”، وتستفيد السلطنة من مكوس مرور بضائع طريق الهند عبر أراضيها. وتعهدت الشركة تحمل نفقات إنشاء الخط لقاء هذا الاستثمار.
انطلق الخط من مدينة برلين مروراً بأراضي النمسا ثم صربيا وبلغاريا ليصل إلى القسم الأوروبي من مدينة اسطنبول على ساحل البوسفور في محطة “حيدر باشا”. تنتقل بعدها العربات على عوامات بحرية لتصل الضفة الآسيوية من اسطنبول، وتعاود سيرها إلى مدينة “قونية”. تفرعت عن شركة “الأناضول” شركة جديدة حملت اسم “الشركة الإمبراطورية العثمانية لخط بغداد” (أطلق عليها اسمBBB ،وهو اختصار لأسماء المدن الثلاث: برلين ـ بغداد ـ البصرة). حصلت الشركة على امتياز مد الخط الحديدي من مدينة “قونية” جنوباً نحو مدينة “أضنة” ثم بلدة “كلس” وبعدها بلدة “رأس العين” ليصل إلى مدينة “الموصل”.
عُدل خط السير من محطة “إصلاحية”، حيث مركز صيانة عربات القطار وإعادة تأهيلها، إلى محطة “ميدان إكبس” على الحدود السورية – التركية الحالية، ليتوجه بعدها إلى محطة “جوبان بيك” قرب مدينة الباب، ثم إلى منطقة “المسلمية” التي تبعد 14 كلم عن مدينة حلب، ويتوجه منها إلى بلدة “جرابلس” التي وصل إليها في عام 1912 ليعبر نهر الفرات على الجسر الحديدي الذي شيده المهندسون الألمان، ويتجه نحو مدينة “نصيبين” التي وصلتها الخطوط الحديدية عام 1918، وهي التي تقابل مدينة القامشلي في سوريا، ويتابع بعدها إلى محطة “تل كوجك” (اسمها الحالي بلدة اليعربية)، ثم محطة “ربيعة”، وهي آخر نقطة على الحدود السورية – العراقية بعد التقسيمات التي أنتجتها معاهدة سايكس – بيكو.
كانت المخططات في بداية العمل على إنشاء الخط الحديدي، تقتضي أن يستمر مجتازاً الأراضي العراقية وصولاً إلى بغداد، واختلف أصحاب الشركة في تحديد نهاية الخط. أصر الفرنسيون على أن يكون ميناء البصرة العراقي، فيما أصر الإنكليز على أن يكون ميناء الكويت لعلاقتهم الحسنة مع حاكمها. وتنتقل البضائع من هذين الميناءين بحراً باتجاه مدينة مومباي في الهند. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى، وخسارة الألمان والعثمانيين الحرب، توقف العمل لإتمام هذا الخط الحديدي، لغاية عام 1922. تابع الفرنسيون تمديد الخط إلى “تل كوجك” عام 1924، وهي نقطة ملتقى الحدود السورية ـ العراقية – التركية، ووصل بعد ذلك الخط الحديدي إلى بغداد عام 1940. وأمسى بعد الانتداب الفرنسي لسوريا، بمثابة مرتسم الحدود السورية – التركية.
تقرر فيما بعد، تمديد الخط الحديدي من محطة “المسلمية” شمال مدينة حلب، ليصل إلى المدينة في المكان الذي اعتُمد ليشيد على أرضه محطة كبيرة لنقل الركاب وشحن البضائع، ومستودعات للبضائع المستوردة، ورحبة صيانة الآليات والعربات، عرفت باسم “محطة بغداد”.
محطة بغداد
بدأ المهندسون الألمان بتشييد محطة بغداد نضع هنا لأنه سبق له الكتابة نضع لينك بالمقال السابق عام 1910، وهي ثاني محطة قطار في مدينة حلب بعد محطة الشام الواقعة في حي الجميلية، أمام المبنى الحديث لمديرية المالية قبل إزالتها في عام 1950. واستكملت أعمال البناء بتشييد جسر معدني في منطقة الصيرفي، ملاصق لمعمل العوارض الإسمنتية التابع للسكك الحديدية، كما شيد جسر إسمنتياً في منطقة الشيخ طه، وأنشأ الألمان على جهته الغربية مجموعة من الملاجئ الحربية.
بوشر في عام 1912 بتسيير القطارات، انطلاقاً من “محطة بغداد” وصولاً إلى بلدة “جرابلس” على نهر الفرات. أبرم المفوض السامي الفرنسي عام 1922، عقداً مع شركة بوزنتي حلب – نصيبين وامتدادها، لإدارة القسم الموجود على الأراضي السورية من خط حديد بغداد، واستمرت هذه الاتفاقية لغاية عام 1933، عندما أبرم المفوض السامي اتفاقية أخرى تقوم بموجبها “شركة شام ـ حماه وامتدادها”، باستثمار هذه الخطوط لمدة خمسة عشر عاماً، وتمّ وصل خطوط السكة الحديدية ما بين محطة بغداد ومحطة الشام.
قامت الحكومة السورية بعدما انتهت الاتفاقية في عام 1948، بإدارة الخطوط الحديدية بكوادرها الوطنية. وفي عهد الرئيس حسني الزعيم، أممت الخطوط الشمالية، وأحدثت “مؤسسة سكك حديد سوريا” بموجب المرسوم التشريعي رقم 10 بتاريخ 9/4/1949.
أبرمت في عام 1955 اتفاقية بين حكومة الجمهورية السورية وشركة سكة حديد شام – حماه وامتدادها، تنازلت بموجبه الشركة عن امتيازاتها في سوريا لقاء مبلغ ثلاثة ملايين ليرة سورية، وصدر القانون رقم 127 تاريخ 20/11/1955، لينظم هذه الاتفاقية.
دمجت الحكومة السورية الخطوط الحديدية التي تعمل على أراضيها، والتي تعود للشركة العثمانية للخط الحديدي شام – حماه وامتدادها، مع الشركة الإمبراطورية العثمانية لخط بغداد ليكونا مؤسسة واحدة، تتمتع باستقلال مالي وإداري، حملت اسم المؤسسة العامة للخطوط الحديدية السورية، ومقرها حلب.
… أوقفت مؤسسة السكك الحديدية حركة نقل المسافرين في أواخر عام 2011 بعد عملية تفجير الخطوط الحديدية قرب حمص، وتوقفت بعدها ببضعة أشهر أغلب الطرق الدولية، للعجز عن حمايتها وحماية حركة النقل عليها، وأستعيض عنها بطرق زراعية، قسم غير قليل منها ترابي. وبهذا تقطع التواصل بين السوريين، وأمسى يضمر الكثير من المخاطر والمجازفات. وبقي على قارعة الطرق أولئك الذين أملوا بوحدة عربية تتعزز بعض مقوماتها بخطوط الحديد.. ولم يدْر في خلدهم، وقد دخلوا القرن الذي يليه، أن تتقطع آمالهم بالتزامن مع تقطّع أوصالهم.
* كاتب من سوريا
السفير العربي