صفحات الرأيطلال المَيْهَني

التراث وضرورة إعادة البعد الزمني الدنيوي إليه/ طلال المَيْهَني

انكبَّ الاشتغال الفكري الناطق بالعربية، منذ بدايات القرن العشرين، على تحليل الأزمات التي تضجُّ بها منطقتنا، ما أدى إلى امتلاء المكتبة العربية بأعمالٍ تناقش هذه القضايا، لعلّ أبرزها تلك التي تصدَّت لدرس الـمواقف من التراث. إلا أن هذا الاشتغال الفكري قلّما امـتلك الجـرأة والنـية والأدوات لتجاوز سطحية التـحـليل والنفاذ إلى الجذور، ما قد يـعَلِّلُ بـقاء مـعـظم النـقاشـات التراثـية تـراوح في المـكان طيلـة قرنٍ من الزمن.

كانت حملة نابليون على مصر واحداً من الأحداث الرضّية التي تم الارتطام فيها مع الحداثة، لتساهم في إيقاظ الوعي بانكسار الذات أمام «الغرب». وقد دخلتْ منطقة الشرق الأوسط على أثر ذلك في حلقةٍ مفرغةٍ من جلْد الذات، بعد أن بدأتْ تَعِي أن هوّةً واسعةً باتتْ تفصلها عن الآخر. ومنذ تلك اللحظة الفارقة حَلَّتْ «لعنة التراث» علينا كامتدادٍ لـ «لعنة الحداثة». فقد تم تنصيب التراث كوثن، ليتلو ذلك استسلامٌ وتمجيدٌ للتراث، أو هروبٌ منه وازدراءٌ له. هكذا، برز ارتهانٌ إلى مزيجٍ من المواقف المتناقضة والمستقطبة التي تتفاعل في المشهد الأليم ذاته، ويمكن تلخيصها في موقفين رئيسين: «تطرف التبجيل» و «تطرف التحقير».

في «تطرف التبجيل» الذي يتشبَّثُ به معظم التقليديين، يُرْفَعُ التراث – الوثن إلى مصافِّ الآلهة التي لا تجوز مساءلتها. هنا يتحول التراث من كونه جزءاً من ماضينا «نحن»، إلى كونه الجزء الوحيد الباقي لنا «نحن». فيغدو التراث مكافئاً للذات، إلى درجةٍ غدتْ معها الذات عديمة القيمة من دونه – إذ لا وجود لها (ولا وجود لنا) خارج نطاق التراث، وليس لدى الذات سواه لتؤكد من خلاله فقط، وجودها. لا تَكْمُنُ الآفة الأساسية هنا في استلهام الماضي، بل في تجميد الزمن وقَمْعه، واعتبار الماضي المجيد الذي تَمَّتْ كتابته وفق قواعد أيديولوجية، نقطةً مرجعيةً ومطلقةً، مع محاولةٍ حثيثةٍ لبتر الحاضر والمستقبل وإعادة تدشين الماضي عوضاً عنهما.

وعلى النقيض، ظهر «تطرف التحقير» الذي يروِّجُ له حشدٌ من المثقفين الحداثيين في محاولةٍ ساذجةٍ للتماهي والتـماثـل الظـاهـري مـع «الآخر». لا يكتفي هذا التيار بتحطيم الوثن، بل يسعى إلى استئصال التراث الذي يُنْظَرُ إليه بازدراءٍ، كونه «مصدر التخلف» الذي نعيش. يؤدي ذلك إلى حذف جزءٍ من ماضينا «نحن»، وخلق فجوةٍ في الزمن، وإحداث رضٍّ في استمرارية التاريخ النفسي للجماعات البشرية في المنطقة.

طبعاً، هناك تـوجهٌ ثالثٌ يعمل عـلى السـير في منتصف الطريق، مُدّعـياً الوَسـَطِيّة والأخذَ من الحداثة بـما لا يتعارض مع القـيم التراثيـة الأصـيلة. ولكن، يمـكن القـول إن هـذا التـوجه الثـالث هـو الأكثر نِفَاقاً (على رغم حسن النيات) كونه يعيد إنتاج الواقع في صورة مـشـوّهة، عبر خلطه المتعمد بين مفاهيم مختلفة كالتراث والحداثة، وتشويهه المقصود للزمن الماضي والحاضر والمستقبل.

عملياً تتشابه المواقف السابقة في إهمالها واغتيالها لمكامن الإبداع الذاتي، وفي عدم قدرتها على الخلاص من «لعنة التراث». وفي معظم هذه الحالات تتم مقاربة التراث كأنه كتلةٌ صامتةٌ وثابتةٌ وأبدية، في «صورته النمطية»، في صيغته الأرثوذوكسية السِّرَاطِيّة المُؤَدْلَجَة والمتفق عليها، تلك التي تشكلتْ عبر تراكمٍ من المصالح والمرويات، وبمباركة الخطاب السلطوي السائد والمنتصر الذي دوّن هذا «التراث» كجزء من الماضي الوردي والتليد. تغدو هذه «الصورة النمطية» أكثر تعـقيداً حـين تتقاطع مع الحضور المتوهم للمـقدّس في مفاصل التراث كافة، وفي النزوع المؤدلج للـتأريخ (أي عـلم كـتابة التاريـخ) في المنطقة، ما يؤدي إلى حذف البعد الدنيوي في تشكل التراث: بالتالي تتحول الشخصيات التاريخية إلى رموزٍ دينية لا تخطئ، والمعارك إلى ملاحم ذات بُعْدٍ ميثولوجي، وسفك الدم إلى عنفٍ مقدّسٍ، والأعراف والعادات الاجتماعية المحلية إلى قوانين مقدّسةٍ ذات أثرٍ كَوْني.

أدّى التمسك بهذه «الصورة النمطية» على المستويين الفكري والتربوي إلى خطأٍ منهجيٍّ قاتلٍ، وإلى إخفاء مكامن الغنى الحقيقي في التراث، والسكوت عن أسباب النهضة التي رافقتْ المراحل الأولى من تشكل ثقافة المنطقة في القرون الهجرية الأربعة الأولى. فقد شهدت تلك المراحل مستوىً عالياً من التبادل والانزياح والتفاعل الثقافي المبكر بين المسلمين وما يحيط بهم من ثقافاتٍ عريقةٍ استوطنت العراق وبلاد الشام ومصر، من دون أن يترافق ذلك مع شعورٍ عميمٍ بالدونية أو الاستعلاء أو تقوقعٍ على الذات في مواجهة «الآخر».

لا بدَّ إذاً من إعادة البعد الزمني الدنيوي إلى التراث، وتخليصه مما أضيف إليه من بهرجاتٍ وقداسةٍ، وإخضاعه إلى تفكيكٍ منهجيٍّ علميٍّ وتاريخيٍّ، بعيداً من الحقن الأيديولوجي الخارق للطبيعة، بخاصة على مستوى السياسة والقانون. ولا بد من أن يسعى الاشتغال الفكري إلى استقصاء كثيرٍ من القضايا المسكوت عنها في ما يتعلق بالتراث (مثال: إن «الصورة النمطية» للتراث ليست سوى حصيلةٍ للتزاوج البطيء والمتأخر بين الفكر الديني والسلطات الحاكمة بعد القرن الخامس – السادس الهجري، مع تراكماتٍ في العهد العثماني، وإحياءٍ انتقائيٍّ وأيديولوجيٍّ مع المد العروبي القومي).

ولكن، من المهم أيضاً الابتعاد عن التَّعَسْكُر المُبَسَّط بين تطرف التبجيل والماضوية، أو التحقير والقطيعة، أو الوسطية والإصلاح. فضرورةُ أخذ موقفٍ من التراث، وكلُّ النقاش الفكري المرتبط بذلك، ليست سوى أزمةٍ ثانويةٍ تنبع من السياق الثقافي العام في المنطقة. وربما من الأجْدى، بدلاً من حَصْر الخيارات في المواقف المذكورة آنفاً، طرحُ أسئلةٍ من قبيل: لماذا يجب أصلاً أن نأخذ موقفاً من التراث؟ لماذا يُسْمَحُ أصلاً للماضي بأن يؤثر في حاضر المنطقة ومستقبلها إلى هذا الحد؟ لماذا يُسْمَحُ للماضي بأن يقرر ويفرز ويُقْصِي ويتدخل في تحديد أنظـمة الـحكم والـسياسة والاقتصاد والقانون؟ أسئلةٌ إشكاليةٌ يجب عرضها بجرأةٍ وروحٍ علميةٍ على مشرحة الإجابة، إنْ أردنا خلاصاً ما من «لعنة التراث» التي ما فتئت تلاحقنا.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى