التشكيل السوري: سجلّات بصرية لجرح مفتوح/ عمر الأسعد
بعد 15 آذار/ مارس 2011، بدأت ملاقط الغسيل والحبال والملابس المنشورة تختفي عن أعمال تمام عزّام. هذه العناصر التي اعتمدها الفنان السوري سابقاً، وطبعت تجربته الأولى محققةً له حضوراً في الوسط التشكيلي السوري، هجرها، مستبدلاً إياها بصور المدن المدمرة والطائرات ودبابات الجيش والقذائف، المشغولة بتقنيات الديجيتال.
كأن عزام يريد أن يقول إن لكل زمان ومكان مواده؛ فإذا كانت العناصر السابقة تحكي الإنسان وذاكرته وتفاصيله الحميمية، فإن العناصر والتقنية الجديدة التي يستعملها ستشرح قصص البشر مع ويلات الحرب، وأحلامهم الأولى بالحرية، وربما جزءاً من تجربته الشخصية، هو الذي خسر مرسمه في دمشق، واضطر إلى مغادرة البلد.
“أعتقد أن كمّ العواطف الذي يعصف بنا كسوريين، منذ أكثر من ثلاث سنوات، عصيٌّ على الاستيعاب في حالة فنية أو أدبية، إذ ما زلنا جميعاً نعيش الكابوس”، يقول عزّام.
ويضيف: “رغم ذلك، كلّ منا لديه أدواته في التعبير عن موقفه إزاء ما يجري. حاولت أن أعود للاشتغال على أفكار الذاكرة، والرحيل، وبقايا القصص المعلقة، التي اشتغلت عليها سنواتِ ما قبل الثورة، صابغاً الأقمشة بمزيد من الأسود والأحمر؛ لكنني لم أستطع إنجاز عمل واحد. ربما لأنني هنا في دبي، حيث لا شارع دمشقياً يدسّ نفسه في أعمالي، ولا حكايا ناس أسمعها في الطريق فتفرض نفسها عليّ”.
مع اشتداد قبضة نظام الأسد العسكرية والأمنية، ضاقت البلاد بالمشغل التشكيلي السوري المساند للثورة، وأغلقت صالات العرض، وباتت متابعة المنجز الفني تتطلب جولة على عواصم عربية وأجنبية، مع خروج غالبية الفاعلين في هذا الحقل من سوريا.
الفنانة هبة الأنصاري، المقيمة في مدينة ميونخ الألمانية، واحدة من هؤلاء. ترى الأنصاري، التي تتخذ من التجهيز قالباً لأعمالها الفنية، أن التغيّرات التي طرأت على حياتها، في مستويات مختلفة، أثّرت وتؤثّر على منتجها الفني. “أنا دائماً في حالة بحث عن نفسي، في الماضي والحاضر. تقاطعات الزمن والمكان من حولي تبني العمل في مخيلتي، وتضيف أبعاداً مختلفة لهذا العمل. مع اختلاف الظروف والمعطيات المحيطة بالفنان، تختلف مادته، وكذلك علاقته بهذه المادة. هذا، على الأقل، ما ينطبق على تجربتي الشخصية”.
قدمت الأنصاري، قبل الثورة، مجموعة من أعمال التجهيز في معارض جماعية. لكن معرضها الفردي الأول لن يجد مكاناً له إلا في مدينة كفرنبل، إحدى أشهر مدن الثورة الخارجة عن سيطرة النظام، شمال البلاد. في معرضها هذا (الذي سمّته “برزخ”، ونظّم بالتزامن مع الذكرى الثالثة لانطلاق الثورة، في آذار/ مارس الماضي)، وفي تجربتها بشكل عام، تطغى على تجهيزات الأنصاري عناصر من اللحم النيء، وعيون الأسماك، وأطراف الحيوانات، جامعةً عناصر الصدمة أمام متلقي أعمالها.
ربما لا ينفصل هذا الاشتغال عن ذاكرة شخصية تشكل جزءاً من ذاكرة عامة تعاني أثر الحرب وويلاتها وصدماتها؛ أثر أكثر من ثلاث سنوات من الأشلاء المقطعة والدماء والقتل والتعذيب والنزوح.
تقول: “الواقع سوريالي بمجمله، لذا أحاول اختيار عناصر تعبّر عنه، وعن كل الخراب الذي يحيط بنا، من خلال التقاط مواد متوحشة وقابلة للتلف، حالها كحال العالم تماماً. وحده العدم مَن يعيش الآن. هذا ليس عبثاً مع الواقع، بقدر ما هو تجربة شخصية يشترك فيها كل أبناء مجتمعي الذين تطحنهم آلات الحرب يومياً، وتطحنني معهم. أحس، أحياناً، بعلاقة أو معادلة بين حالنا مع الحرب، وحال اللحم في العمل الفني: مادة، مثلنا تماماً، قابلة للتلف، وغير قابلة للتكرار”.
في الوقت الذي تعمل فيه الأنصاري على هذه العناصر التي تقابل لديها حال السوريين، يبدو الفنان أنس حمصي، المقيم في بيروت، منشغلاً بالوجوه في لوحاته. وجوه تغيب معانيها وملامحها، ما قد يرمي، ربما، إلى غياب ملامح الإنسان في الحرب، إذ مَن يذكر ملامح مئات آلاف القتلى المعتقلين وملايين المهجرين من السوريين؟ من يستطيع إحصاء ملامح الوجوه في هذا الخراب؟
مع الجواب المحتمل لأسئلة كهذه، تتقاطع أعمال حمصي، التي تحاكي وجوه وملامح سوريين غائبة ومختفية خلف المأساة، مسندةً هذه الوجوه إلى تجريدية ورمزية يشف من خلفهما ما تريد أن تحكيه من حكايا. يقول حمصي: “تختفي العيون في أغلب الوجوه في اللوحات والاسكتشات التي أنجزها، ذلك أنّ هذه الوجوه والشخوص لا تريد ملامسة الواقع. فعندما يكون الإنسان نائماً أو ميتاً، يكون في عالم آخر تماماً، ليس له علاقة بالواقع”.
ويشير إلى أنه لم يتعمد الذهاب، في لوحاته، إلى هذه المناطق، إلى الوجوه وملامحها، “بل لاحظت ذلك في ما بعد، كما لاحظه الناس”. هذا يقود إلى تأثيرات الحاضر السوري على تجربة الفنان، إذ يقول حمصي إنه وجد نفسه في صلب موضوع الإنسان السوري ومأساته. رغم كل ما يجري، على الفنان أن يرسم. “الحرب والموت والتعجير والقصف والعنف هي أمور تقتطع جانباً كبيراً من حياتنا، لكن يبقى ثمة جانب آخر. الطفل الذي فقد أسرته في الحرب، لن نستطيع حرمانه من اللعب والضحك في مخيمات اللاجئين. هذا حال الفنان أيضاً”.
يمكن القول إن ملامح الثورة والحرب والعنف والموت باتت مطبوعة في المنجز التشكيلي السوري الراهن. ينعكس ذلك في المواد التي يختارها الفنانون لأعمالهم، وفي أساليبهم ووسائطهم، وكذلك في موضوعاتهم.
هكذا، سيلاحظ المتابع لسيرة الفن السوري حضوراً مكثفاً لليوميات في السنوات الثلاث الأخيرة؛ يوميات المأساة واللجوء. وإن كان الحديث عن تجارب ثلاثة من الفنانين السوريين الشباب يعني حديثاً عن أساليب وأدوات وموضوعات مختلفة في طبيعتها وفي طبيعة وجهة نظرها إلى الحدث، وعن مدن مثل دبي وبيروت وميونخ تبتعد عن سوريا بمسافات مختلفة؛ فإن ذلك لا يعني إلا نموذجاً لحال التشكيل السوري الراهن، الذي يشترك غالبية الفاعلين فيه في تجارب الثورة والحرب واللجوء.
العربي الجديد