التطرّف الديني ليس جماعات وأفكاراً معزولة/ إبراهيم غرايبة
تخطئ الحكومات والجهات التي تزعم أنها تواجه التطرف، إذا نظرت إليه على أنه جماعات وأفكار معزولة يمكن مواجهتها والردّ عليها، فالتطرف الديني، في الواقع، يتشكل في منظومة سياسية واجتماعية، وترعاه بيئة آمنة من المؤسسات الاجتماعية والتعليمية والدينية، رسمية ومجتمعية، وما تفعله الجماعات المتطرفة ليس سوى أنها تنهل من مصادر وموارد قائمة تنفق عليها الدول والمجتمعات، وتقدم هذه البيئة الآمنة الأفكار والأنصار والمؤيدين للتطرف الديني، ولا فائدة بعد ذلك، أو أهمية، لملاحقة المتطرفين والردّ عليهم، طالما أن ما تقدمه المناهج التعليمية والمساجد والمؤسسات الدينية والإعلامية التي ترعاها الحكومات والسلطات السياسية يمثل القاعدة الاجتماعية والفكرية للمتطرفين.
ويمكن، ببساطة ووضوح، ملاحظة الاستراتيجيات الفكرية للمتطرفين، كما هي في الفكر الديني والاجتماعي السائد والمفهوم، والمطبق في كل مؤسسات الدول والمجتمعات العربية والإسلامية، ومن أمثلة هذه الموارد الفكرية دمج الديني بالإنساني، ودمج المقدس بالتاريخ والتراث في الكتب والمناهج التعليمية ومصادر التراث الديني والفقهي والتاريخي المعتمدة والمتداولة في العالم العربي والإسلامي. وعلى هذا الأساس، تقدم الأصوليات الدينية والجماعات المتشددة نموذجها الذي تدعو إليه مما تقدمه هذه المصادر، من قبيل الحكم الإسلامي والمجتمع الإسلامي، والاقتصاد الإسلامي، والإعلام الإسلامي، والتعليم الإسلامي، وأسلوب الحياة الإسلامي، ويظهر الأصوليون والمتطرفون الدينيون فيما يقدمون من مؤسسات وأفكار عملية بديلة لما هو قائم أنهم يقدمون الإسلام، ويطبقونه عملياً ومؤسسياً، وتستقطب مؤسساتهم التي ينشئونها، أو يدعمونها، من بنوك ومدارس وجامعات ومكتبات وصحف ووسائل إعلام ومسابح وفنادق ومحلات تجارية مختلفة وأقراص إلكترونية للنشيد والأفلام والمحاضرات وملابس وأطعمة قطاعاً واسعاً من المتدينين الذين يتحولون إلى قاعدة اجتماعية وتنظيمية، وتكون المؤسسات نفسها مورداً مالياً للإنفاق والتشغيل، وتتشكل علاقات اقتصادية ومصالح معقدة ومتشابكة.
ويتوسع المتطرفون في تطبيق أساليبهم وأدواتهم في العمل، بالاعتماد على مبادئ وأحكام دينية متقبلة وسائدة، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الإسلام، فيقدمون أنفسهم وجماعاتهم باعتبارها فريضة دينية، اقتضتها الضرورات والمبادئ الإسلامية، في الدعوة والتبليغ، ويكون أيضاً للجماعات الدينية وقياداتها ولاية دينية وشرعية في التأثير والقرار والاستخدام في الانتخابات النيابية والعامة أو في التأييد بشكل عام.
ويقدم المتطرفون أنفسهم دائماً مدافعين عن التراث الديني، باعتباره هو الدين، وعن التاريخ كله
“الفهم المعاصر للإسلام، كما هو متداول ومطبق في الفضاء العام الشعبي والرسمي، هو، في واقع الحال، الفهم الجماعاتي المنظم والمتطرف” باعتباره مقدساً لا يجوز نقده، أو المساس به. وفي هذه المصداقية التي يكتسبونها بالدفاع عن التراث والتاريخ، ينشئون أيضاً تحالفات اجتماعية ورسمية وهيمنة على الرأي العام، وإرهاباً لغيرهم، إذ يمكن بسهولة اتهام أي خصم أو منافس بالإساءة إلى الدين، أو الرموز الدينية، أو التاريخية، من غير دليل كافٍ، ليتحول إلى عدو للإسلام، ويتعرّض للإقصاء والاتهام.
وتقدم الجماعات المتطرفة نفسها إلى جمهورها، في أمثلة ونماذج رمزية مبسطة من التاريخ الإسلامي، مثل قصص الأنبياء والعلماء والدعاة والخلفاء المتداولة في الكتب والمصادر المتاحة والمعتمدة في المدارس والمكتبات والمساجد والحلقات الدينية والفضائيات. وفي تكرار هذه القصص والنماذج، وتقديمها بأسلوب عصري مضاف إليه المؤثرات والتعليقات، أو في عرضها عرضاً مسرحياً أو تصويرياً، يظهر المتطرفون وكأنهم يستأنفون هذه النماذج والحالات المؤثرة والمعروضة عرضاً ممتعاً ومثالياً. وفي ذلك، أمكنهم مواجهة وإضعاف الاتجاهات والمؤسسات العلمية والروحية التي كانت تقدم الدين على نحو تقليدي، فيه مشقة وملل، في حين أنهم يقدمون الدين بقدر واسع من المتعة والتبسيط والتسلية! ويمكن ملاحظة هذه الاستراتيجية في كتب ومصادر متداولة كثيرة.
واستطاع المتطرفون، أيضاً، تحويل كثير من مبادراتهم إلى دراسات علمية وأطروحات جامعية أو مناهج ومؤسسات تعليمية، وتحولت الشعارات والأفكار والمبادئ العامة التي كانوا يطلقونها إلى أطروحات جامعية ومشاريع وبرامج لتطوير مبادئ وأفكار دينية أولية إلى دراسات ووجهات نظر وبرامج متماسكة وصلبة في التعليم والاقتصاد والإعلام والفقه والفكر والعقيدة والدعوة، كما قدموا مبادرات مؤسسية لـ”الأسلمة” في المعرفة والعلوم والاقتصاد والتعليم والسلع والأسواق وأسلوب الحياة. وتطورت هذه الدراسات والمبادرات مع الزمن إلى شبكة واسعة، يشارك فيها، بالإضافة إلى الجماعات الأصولية، عدد كبير من أصحاب المصالح الاقتصادية والسياسية.
ويتكئ المتطرفون، اليوم، في برامجهم ومكتسباتهم السياسية والانتخابية والاجتماعية، وفي خطابهم إلى الناس، على مشروع إسلامي عصري بديل في الحكم والسياسة والاقتصاد والاجتماع. وتدعم هذا الخطاب تجربة طويلة في الدعوة والعمل المؤسسي المنظم. وفي ذلك صاروا يكتسبون شرعية دينية وسياسية، ويظهر كل من يواجههم، أو يعارضهم، بأنه يحارب الإسلام، وقد استطاعوا بناء حالة من الثقة بمشروعاتهم وشخصياتهم، تفوق المشاريع والتطبيقات الرسمية، على الرغم من أنها أيضاً مستمدة من الشريعة الإسلامية، أو مطابقة لها.
وأنشأت الجماعات الدينية المتطرفة المسيسة فهماً وتطبيقاً للدين (الأسلمة)، واستطاعت تكريسه، مع الزمن، في الكتب والإعلام والمناهج التعليمية في المدارس والجامعات، وفي التطبيقات “الدينية” العصرية لمؤسسات وأعمال ومنظومات كثيرة. ويجب القول إن الفهم المعاصر للإسلام، كما هو متداول ومطبق في الفضاء العام الشعبي والرسمي، هو، في واقع الحال، الفهم الجماعاتي المنظم والمتطرف، ولم يعد أحد يشعر بذلك. والحال أن النموذج المتشدد أصبح الفهم السائد والمطبق في المساجد والفضائيات والمناهج والثقافة الشعبية الدينية، وصارت المؤسسات الرسمية والإعلامية والتعليمية، على الرغم من عدائها السياسي للمتطرفين والجماعات الدينية المتطرفة تنتج التطرف نفسه الذي تدعو إليه هذه الجماعات، وتحسب الحكومات والمؤسسات نفسها تحارب التطرف.
العربي الجديد